تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤١٩
قالوا: عيسى قال: وأي شيء أقول؟ قالوا: تقول أنه عبد الله ورسوله قال: إنه ليس بعار أن يكون عبدا قالوا: بلى). فنزلت أي لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأن العار ألصق به، أي: لن يأنف ويرتفع ويتعاظم.
وقرأ على عبيد الله على التصغير. والمقربون أي: الكروبيون الذين هم حول العرش كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومن في طبقتهم قاله الزمخشري. وقال ابن عباس: هم حملة العرش. وقال الضحاك: من قرب منهم من السماء السابعة انتهى. وعطفوا على عيسى لأن من الكفار من يعبد الملائكة. وفي الكلام حذف التقدير: ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيد الله، فإن ضمن عبدا معنى ملكا لله لم يحتج إلى هذا التقدير، ويكون إذ ذاك ولا الملائكة من باب عطف المفردات، بخلاف ما إذا لحظ في عبد الوحدة. فإن قوله: ولا الملائكة يكون من باب عطف الجمل لاختلاف الخبر. وإن لحظ في قوله: ولا الملائكة معنى: ولا كل واحد من الملائكة، كان من عطف المفردات. وقد تشبث بهذه الآية من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء. قال ابن عطية: ولا الملائكة المقربون زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان أي: ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن ذلك، فكيف من سواهم؟ وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء انتهى. وقال الزمخشري: (فإن قلت): من أين دل قوله تعالى: ولا الملائكة المقربون على أن المعنى ولا من فوقه؟ (قلت): من حيث أن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن مرتبة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يرتفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة. كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:
* وما مثله ممن يجاود حاتم * ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره * لا شبهة بأنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: * (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى) * حتى يعترف بالفرق البين انتهى كلامه. والتفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع، إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل، وأما الآية فقد يقال: متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول، ولا أن ذلك من باب الترقي. (فإذا قلت): لن يأنف فلان أن يسجد لله ولا عمر، وفلا دلالة فيه على أن عمرا أفضل من زيد. وإن سلمنا ذلك فليست الآية من هذا القبيل، لأنه قابل مفردا بجمع، ولم يقابل مفردا بمفرد ولا جمعا بجمع. فقد يقال: الجمع أفضل من المفرد، ولا يلزم من الآية تفضيل الجمع على الجمع، ولا المفرد على المفرد. وإن سلمنا أن المعطوف في الآية أرفع من المعطوف عليه، فيكون ذلك بحسب ما ألقي في أذهان العرب وغيرهم من تعظيم الملك وترفيعه، حتى أنهم ينفون البشرية عن الممدوح ويثبتون له الملكية، ولا يدل تحيلهم ذلك على أنه في نفس الأمر أفضل وأعظم ثوابا ومما ورد من ذلك على حسب ما ألقي في الأذهان قوله تعالى حكاية عن النسوة التي فاجأهن حسن يوسف: * (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هاذا بشرا إن هاذا إلا ملك كريم) * وقال الشاعر:
(٤١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 414 415 416 417 418 419 420 421 422 423 424 ... » »»