تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥
حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله، وأكل الربا، وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم انتهى كلامه.
(من قبل أن تنزل التوراة) قال أبو البقاء: من متعلقة ب (حرم)، يعني في قوله: إلا ما حرم إسرائيل على نفسه. ويبعد ذلك، إذ هو من الاخبار بالواضح، لأنه معلوم أن ما حرم إسرائيل على نفسه هو من قبل إنزال التوراة ضرورة لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة. ويظهر أنه متعلق بقوله: كان حلا لبني إسرائيل، أي من قبل أن تنزل التوراة، وفصل بالاستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن: في جواز أن، يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفا أو مجرورا أو حالا نحو: ما حبس إلا زيد عندك، وما أوى إلا عمرو وإليك، وما جاء إلا زيد ضاحكا. وأجاز الكسائي ذلك في منصوب مطلقا نحو: ما ضرب إلا زيد عمرا وأجاز هو وابن الأنباري ذلك في مرفوع نحو: ما ضرب إلا زيدا عمرو، وأما تخريجه على مذهب غير الكسائي وأبي الحسن فيقدر له عامل من جنس ما قبله تقديره هنا: حل من قبل أن تنزل التوراة.
* (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) *. قل: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم). وقيل: فأتوا محذوف تقديره: هذا الحق، لا زعمكم معشر اليهود. فأتوا: وهذه أعظم محاجة أن يؤمروا بإحضار كتابهم الذي فيه شريعتهم، فإنه ليس فيه ما ادعوه بل هو مصدق لما أخبر به صلى الله عليه وسلم): من أن تلك المطاعم كانت حلالا لهم من قديم، وأن التحريم هو حادث. وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها، بل بهتوا وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم. وفي استدعاء التوراة منهم وتلاوتها الحجة الواضحة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إذ كان عليه السلام النبي الأمي الذي لم يقرأ الكتب ولا عرف أخبار الأمم السالفة، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد عليهم بما في كتبهم ولا يجدون من إنكاره محيصا. وفي الآية دليل على جواز النسخ في الشرائع، وهم ينكرون ذلك. وخرج قوله: إن كنتم صادقين مخرج الممكن، وهم معلوم كذبهم. وذلك على سبيل الهزء بهم كقولك: إن كنت شجاعا فالقني، ومعلوم، عندك أنه ليس بشجاع، ولكن هزأت به إذ جعلت هذا الوصف مما يمكن أن يتصف به.
* (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون) * يحتمل أن يكون مندرجا تحت القول، ويحتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله بذلك، وافتراؤه الكذب هو زعمه أن ذلك كان محرما على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة، والإشارة بذلك قيل يحتمل ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون إلى التلاوة، إذ مضمنها بيان مذهبهم وقيام الحجة البالغة القاطعة، ويكون افتراء الكذب أن ينسب إلى كتب الله ما ليس فيها. والثاني: أن يكون إلى استقرار التحريم في التوراة، إذ المعنى: إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم. وافتراء الكذب أن يزيد في المحرمات ما ليس فيها. والثالث: أن يكون إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه وقبل نزول التوراة من سنن يعقوب. وشرع ذلك دون إذن من الله. ويؤيد هذا الاحتمال قوله: * (فبظلم من الذين) * الآية. فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم، وكانوا يشددون فيشدد عليهم الله كما فعلوا في أمر البقرة. وجاءت شريعتنا بخلاف هذا، دين الله (يسر يسروا ولا تعسروا، وابعثت بالحنيفية السمحة) * (اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج) * والأظهر في من أنها شرطية، ويجوز أن تكون موصولة. وجمع في فأولئك حملا على المعنى. وهم: يحتمل أن تكون فصلا، ومبتدأ، وبدلا. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وقيل: هو هنا الكفر.
* (قل صدق الله) * أمر تعالى نبيه أن يصدع بخلافهم، أي الأمر الصدق هو ما أخبر الله به لا ما افتروه ومن الكذب. ونبه بذلك على أن ما أخبر به من قوله: * (كل الطعام) * وسائر ما تقدم صدق، وأنه ملة إبراهيم. والأحسن أن يكون قوله: (قل صدق الله) أي في جميع ما أخبر به في كتبه المنزلة. وقيل: في أن محمدا صلى الله عليه وسلم) هو على ملة إبراهيم، وإبراهيم كان مسلما. وقيل في قوله: (كل الطعام) الآية قاله ابن السائب. وقيل: في أنه ما كان يهوديا ولا نصرانيا قاله: مقاتل وأبو سليمان
(٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 ... » »»