تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤
الذي حرمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها؛ ورواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول: الحسن، وعطاء، وأبي العالية، ومجاهد، وعبد الله بن كثير في آخرين. وقيل: العروق. رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهو قول: مجاهد أيضا، وقتادة، والضحاك، والسدي، وأبي مجلز في آخرين.
قال ابن عباس: عرضت له الآنساء فأضنته، فجعل لله إن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقا. قال: فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم، وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر. وروي عن ابن عباس أنه حرم العروق ولحوم الإبل. وقيل: زيادتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما على الظهر قاله: عكرمة. وتقدم سبب تحريمه لما حرمه.
قال ابن عطية: ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه، فجعل تحريم ذلك شكرا لله تعالى إن شفي. وقيل: هو وجع عرق النسا. وهذا الاستثناء يحتمل الاتصال والانقطاع، فإن كان متصلا كان التقدير: إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فحرم عليهم في التوراة، فليست فيها الزوائد التي افتروها وادعوا تحريمها. وإن كان منقطعا كان التقدير: لكن إسرائيل حرم ذلك على نفسه خاصة، ولم يحرمه الله على بني إسرائيل. والاتصال أظهر. وظاهر قوله: على نفسه، أن ذلك باجتهاد منه لا بتحريم من الله تعالى. واستدل بذلك على أن للأنبياء أن يحرموا بالاجتهاد. وقيل: كان تحريمه بإذن الله تعالى. وقيل: يحتمل أن يكون التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا. وقال الأصم: لعل نفسه كانت مائلة إلى تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس وطلبا لمرضاة الله كما يفعله كثير من الزهاد، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم.
واختلفوا في سبب التحريم للطعام الذي حرمه إسرائيل على بنيه ومن بعدهم من اليهود، وهذا إذا قلنا: بأن الاستثناء متصل. أما إذا كان منقطعا فلم يحرم عليهم. وقال ابن عطية: حرمها عليهم بتحريم إسرائيل، ولم يكن محرما في التوراة، وروي عن ابن عباس أن يعقوب قال: (إن عافاني الله لا يأكله لي ولد. وقال الضحاك: وافقوا أباهم في تحريمه، لا أنه حرم عليهم بالشرع، ثم أضافوا تحريمه إلى الشرع فأكذبهم الله تعالى. وقال ابن السائب: حرمه الله عليهم بعد التوراة لا فيها، وكانوا إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم به عليهم طعام طيب، أو صب عليهم عذاب، ويؤكده (فبظلم) الآية.
وقيل: لم يحرم عليهم قبل نزول التوراة ولا بعدها، ولا بتحريم إسرائيل عليهم، ولا لموافقته بل قالوا ذلك تحرضا وافتراء. وقال السدي: لما أنزل الله التوراة حرم عليهم ما كانوا يحرمون على أنفسهم قيل نزولها.
قال الزمخشري: والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه، فتبعوه على تحريمه وهو رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم بما نعى عليهم في قوله: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات) * الآية. وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتغضوا. فما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم فقالوا: لسنا بأول من حرمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما
(٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 ... » »»