بعد خروج ما يجب إخراجه بوصية، أو بدين. وليس تعلق الدين والوصية بالتركة سواء، إذ لو هلك من التركة شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعا، ويبقى الباقي بينهم بالشركة، ولا يسقط من الدين شيء بهلاك شيء من التركة. وتفصيل الميراث على ما ذكروا أنه بعد الوصية يدل على أنه لا يراد ظاهر إطلاق وصية من جواز الوصية بقليل المال وكثيره، بل دل ذلك على جواز الوصية بنقص المال. ويبين أيضا ذلك قوله: * (للرجال نصيب) *، الآية. إذ لو جازت الوصية بجميع المال لكان هذا الجواز ناسخا لهذه الآية، وقد دل الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول على أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث. وقد استحبوا النقصان عنه هذا إذا كان له وارث، فإن لم يكن له وارث، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح: لا تجوز الوصية إلا في الثلث. وقال شريك وأبو حنيفة وأصحابه: يجوز بجميع ماله، لأن الامتناع في الوصية بأكثر من الثلث معلل بوجود الورثة، فإذا لم يوجد وأجاز لظاهر إطلاق الوصية، لأنه إذا فقد موجب تخصيص البعض جاز حمل اللفظ على ظاهره.
وقد استدل بقوله: من بعد وصية يوصي بها أو دين، على أنه إذا لم يكن دين لآدمي ولا وصية، يكون جميع ماله لورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة أو كفارة أو نذر لا يجب إخراجه إلا أن يوصي بذلك. وفي هذا الاستدلال نظر. والوصية مندوب إليها، وقد كانت واجبة قبل نزول الفرائض فنسخت. وادعى قوم وجوبها. وتتعلق من بمحذوف أي: يستحقون ذلك، كما فصل من بعد وصية، ويوصي في موضع الصفة، وبها متعلق بيوصي، وهو مضارع وقع موقع الماضي. والمعنى: من بعد وصية أوصى بها. ومعنى: أو دين، لزمه. وقدم الوصية على الدين، وإن كان أداء الدين هو المقدم على الوصية بإجماع اهتماما بها وبعثا على إخراجها، إذ كانت مأخوذة من غير عوض شاقا على الورثة إخراجها مظنة للتفريط فيها، بخلاف الدين. فإن نفس الوارث موطنة على أدائه، ولذلك سوى بينها وبين الدين بلفظ: أو، في الوجوب. أو لأن الوصية مندوب إليها في الشرع محضوض عليها، فصارت للمؤمن كالأمر اللازم له. والدين لا يلزم أن يوجد، إذ قد يكون على الميت دين وقد لا يكون، فبدىء بما كان وقوعه كاللازم، وأخر ما لا يلزم وجوده. ولهذه الحكمة كان العطف بأو، إذ لو كان الدين لا يموت أحد إلا وهو راتب لازم له، لكان العطف بالواو، أو لأن الوصية حظ مساكين وضعاف، والدين حظ غريم يطلبه بقوة. وله فيه مقال. قال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى أو؟ (قلت): معناها الإباحة، وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما قدم على قسمة الميراث كقولك: جالس الحسن، أو ابن سيرين انتهى.
ودلت الآية على أن الميراث لا يكون إلا بعد إخراج ما وجب بالوصية أو الدين، فدل على أن إخراج ما وجب بها سابق على الميراث، ولم يدل على أنهما أسبق ما يخرج من مال الميت، إذ الأسبق هو مؤنة تجهيزه من غسله وتكفينه وحمله ووضعه في قبره، أو ما يحتاج إليه من ذلك. وقرأ الابنان وأبو بكر: يوصي فيهما مبنيا للمفعول، وتابعهم حفص على الثاني فقط، وقرأهما الباقون: مبنيا للفاعل.
* (وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة) * قال ابن عباس والحسن: هو في الآخرة لا يدرون أي الوالدين أرفع درجة عند الله ليشفع في ولده، وكذا الولد في والديه. وقال مجاهد وابن سيرين والسدي: معناه في الدنيا، أي: إذا اضطر إلى إنفاقهم للفاقة. ونحا إليه الزجاج، وقد ينفقون دون اضطرار. وقال ابن زيد: في الدنيا والآخرة، واللفظ يقتضي ذلك. وروى عن مجاهد: أقرب لكم نفعا في الميراث والشفاعة. وقال ابن بحر: أسرع موتا فيرثه الآخر. وقال ابن عيسى: أي فاقسموا الميراث على ما بين لكم من يعلم النفع والمصلحة، فإنكم لا تدرون أنتم ذلك،