تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٤٦١
خرج قال مقاتل: كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح لا يأمن عليه أحدا، فإذا حاضت أخرجها إلى منزلة تكون مع خالتها أم يحيى أو أختها، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس وقيل: كانت مطهرة من الحيض.
* (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) *. قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي: وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء وقال الحسن: تكلمت في المهد ولم تلقم ثديا قط، وإنما كانت يأتيها رزقها من الجنة.
والذي ورد في الصحيح أن الذي تكلم في المهد ثلاثة: عيسى، وصاحب جريج، وابن المرأة وورد من طريق شاذ: صاحب الأخدود. والأغرب أن مريم منهم.
وقيل: كان جريج النجار، واسمه يوسف بن يعقوب، وكان ابن مريم حين كفلها بالقرعة وقد ضعف زكريا عن القيام بها، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه، فيزكو ذلك الطعام ويكثر، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج، فيسألها. وههذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت وهو الأقرب للصواب.
وقيل: كانت ترزق من غير رزق بلادهم قال ابن عباس: كان عنبا في مكتل ولم يكن في تلك البلاد عنب، وقاله ابن جبير، ومجاهد وقيل: كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق.
والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره، فإن الله تعالى كفاه لما كفلها مؤونة رزقها، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف.
و: كلما، تقتضي التكرار، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها. ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها، والمعنى: أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها، ولم يوجهه هو. وأبعد من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي، فسماه رزقا قال الراغب: واللفظ محتمل، انتهى، وهذا شبيه بتفسير الباطنية.
* (قال ياءادم * مريم * إنى لك * هاذا قالت هو من عند الله) * استغرب زكريا وجود الرزق عندها وهو لم يكن أتى به، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها، وكيف أتى هذا الرزق؟ و: أنى، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان، والأظهر أنه سؤال عن الجهة، فكأنه قال: من أي جهة لك هذا الرزق؟ ولذلك قال أبو عبيدة: معناه من أين؟ ولا يبعد أن يكون سؤالا عن الكيفية، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك؟ وقال الكميت:
* أنى ومن أين أتاك الطرب * من حيث لا صبوة ولا طرب وجوابها سؤاله بأنه * (من عند الله) * ظاهره أنه لم: يأت به آدمي البتة، بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى. وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقا، لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدمت، فتجيبه بأنه من عند الله، وتحيله على مسبب الأسباب، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم، وبكونه يشهد مقاما شريفا، واعتناء لطيفا بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته.
* وهذا الخارق العظيم قيل: هو بدعوة زكريا لها بالرزق، فيكون من خصائص زكريا وقيل: كان تأسيسا لنبوة ولدها
(٤٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 456 457 458 459 460 461 462 463 464 465 466 ... » »»