تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٤٥٤
سوى هؤلاء، ويكون قد اندرج في قوله: وآل إبراهيم محمد صلى الله عليه وسلم)، فيكون المعنى: أن هؤلاء فضلوا على من سواهم من العالمين. واشتراكهم في القدر المشترك من التفضيل لا يدل على التساوي في مراتب التفضيل، كما تقول: زيد وعمر وخال أغنياء، فاشتراكهم في القدر المشترك من الغنى لا يدل على التساوي في مراتب الغنى، وإذا حملنا: العالمين، على من سوى هؤلاء، كان في ذلك دلالة على تفضيل البشر على الملائكة، لأنهم من سوى هؤلاء الصطفين، وقد استدل بالآية على ذلك. ولا يمكن حمل: العالمين، على عمومه لأجل التناقض، لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين، يلزم كل واحد منهم أن يكون أفضل من الآخر، وهو محال.
وقرأ عبد الله: وآل محمد على العالمين.
* (ذرية بعضها من بعض) * أجازوا في نصب: ذرية، وجهين:.
أحدهما: أن يكون بدلا. قال الزمخشري * (من ءال * إن الله اصطفى) * يعني أن الآلين ذرية واحدة، وقال غيره بدل من نوح ومن عطف عليه من الأسماء. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون بدلا من آدم لأنه ليس بذرية انتهى. وقال ابن عطية: لا يسوغ أن تقول في والد هذا ذرية لولده. وقال الراغب: الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل. كقوله: * (حملنا ذريتهم) * أي آباءهم، ويقال للنساء: الذراري. وقال صاحب النظم: الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء، والأبناء ذرية للآباء، وجاز ذلك لأنه من ذرأ الله الخلق، فالأب ذرىء منه الولد، والولد ذرىء من الأب. وقال معناه النقاش فعلى قول الراغب وصاحب النظم، يجوز أن يكون: ذرية، بدلا من: آدم، ومن عطف عليه.
وأجازوا أيضا نصب: ذرية، على الحال، وهو الوجه الثاني من الوجهين، ولم يذكره الزمخشري، وذكره ابن عطية. وقال: وهو أظهر من البدل.
وتقدم الكلام على ذرية دلالة واشتقاقا ووزنا، فأغنى عن إعادته.
وقرأ زيد بن ثابت والضحاك: ذرية، بكسر الذال، والجمهور بالضم.
* (بعضها من بعض) * جملة في موضع الصفة لذرية و: من، للتبعيض حقيقة أي: متشعبة بعضها من بعض في التناسل، فإن فسر عمران بوالد موسى وهارون فهما منه، وهو من يصهر، ويصهر من قاهث، وقاهث من لاوي، ولاوى من يعقوب، ويعقوب من إسحاق، وإسحاق من إبراهيم عليهم السلام. وإن فسر عمران بوالد مريم أم عيسى، فعيسى من مريم، ومريم من عمران بن ماثان، وهو من ولد سليمان بن داود، وسليمان من ولد يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقيل: من، للتبعيض مجازا أي: من بعض في الإيمان والطاعة والإنعام عليهم بالنبوة، وإلى نحو من هذا ذهب الحسن، قال: من بعض في تناصر الدين، وقال أبورون: بعضها على دين بعض. وقال قتادة: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد.
* (والله سميع عليم) * أي سميع لما يقوله الخلق، عليم بما بضمرونه. أو: سميع لما تقوله امرأة عمران، عليم بما تقصد. أو: سميع لما تقوله الذرية، عليم بما تضمره. ثلاثة أقوال.
وقال الزمشخري: عليم بمن يصلح للاصطفاء، أو: يعلم أن بعضهم من بعض في الدين. إنتهى.
والذي يظهر أن ختم هذه الآية بقوله * (والله سميع عليم) * مناسب لقوله * (إبراهيم الكتاب * إن الله) * لأن إبراهيم عليه السلام دعا لآله في قوله: * (ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع) * بقوله: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات) * وحمد ربه تعالى فقال: * (الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق) * وقال مخبرا عن ربه: * (إن ربى لسميع الدعاء) * ثم دعا ربه بأنه يجعله مقيم الصلاة وذريته، وقال حين بنى هو وإسماعيل الكعبة * (ربنا تقبل منا) * إلى سائر ما دعا به حتى قوله: * (وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك) * ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أنا دعوة إبراهيم). فلما تقدمت من إبراهيم تضرعات وأدعية لربه تعالى في آله وذريته، ناسب أن يختم بقوله: * (والله سميع عليم) * وكذلك آل عمران، دعت امرأة عمران بقبول ما كانت نذرته لله تعالى، فناسب أيضا ذكر الوصفين، ولذلك حين ذكرت النذر
(٤٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 449 450 451 452 453 454 455 456 457 458 459 ... » »»