تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٤٤٨
قليلا، كقوله تعالى * (مثل ما أنكم تنطقون) * والذي يقتضيه المعنى أن: لو أن، وما يليها هو معمول: لتود، في موضع المفعول به. قال الحسن: يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبدا، ذلك معناه.
ومعنى أمدا بعيدا: غاية طويلة، وقيل: مقدار أجله، وقيل: قدر ما بين المشرق والمغرب.
* (ويحذركم الله نفسه) *. كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من الله بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه.
* (والله رءوف بالعباد) * لما ذكر صفة التخويف وكررها، كان ذلك مزعجا للقلوب، ومنبها على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال واحضاره لها يوم الحساب، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما، فذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه، وليبسط الرجاء في أفضاله، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدة الأمر، ذكر ما يدل على سعة الرحمة، كقوله تعالى: * (إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) * وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة التخويف، لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم الله، وجاء المحذر مخصوصا بالمخاطب فقط، وهذه الجملة جاءت اسمية، فتكرر فيها اسم الله، إذا لوصف محتمل ضميره تعالى، وجاء المحكوم به على وزن فعول المقتضي للمبالغة والتكثير، وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو: رؤوف، وجاء متعلقة عاما ليشمل المخاطب وغيره، وبلفظ العباد ليدل على الإحسان التام، لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر، إذ هو ملكه.
قالوا: ويحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير، أي: إن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه. وعن الحسن: من رأفته بهم أن حذرهم نفسه، وقال الحوفي: جعل تحذيرهم نفسه إياه، وتخويفهم عقابه رأفة بهم، ولم يجعلهم في عمى من أمرهم. وروي عن ابن عباس هذا المعنى أيضا، والكلام محتمل لذلك، لكن الأظهر الأول، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن.
* (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) *. نزلت في اليهود، قالوا: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * أو: في قول المشركين * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * قالوا ذلك، وقد نصبت قريش أصنامها يسجدون لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم) وكلا هذين القولين عن ابن عباس.
وقال الحسن، وابن جريج: في قوم قالوا: إنا لنحب ربنا حبا شديدا. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: في وفد نجران حيث قالوا: إنا نعظم المسيح حبا لله. انتهى.
ولفظ الآية يعم كل من ادعى محبة الله، فمحبة العبد لله عبارة عن عن ميل قلبه إلى ما حده له تعالى وأمره به، والعمل به واختصاصه إياه بالعبادة، ومحبته تعالى للعبد تقدم الكلام عليها، وهل هي من صفات الذات أم من صفات الفعل، فأغنى عن إعادته. رتب تعالى على محتبهم له واتباع رسوله محبته لهم، وذلك أن الطريق الموصل إلى رضاه تعالى إنما هو مستفاد من نبيه، فإنه هو المبين عن الله، إذ لا يهتدي العقل إلى معرفة أحكام اا في العبادات ولا في غيرها، بل رسوله صلى الله عليه وسلم) هو الموضح لذلك، فكان اتباعه فيما أتى به احتماء لمن يحب أن يعمل بطاعة الله تعالى.
وقرأ الجمهور: تحبون، ويحببكم، من أحب. وقرأ أبو رجاء العطاردي: تحبون ويحببكم، بفتح التاء والياء من حب، وهما لغتان وقد تقدم ذكرهما. وذكر الزمخشري أنه قرىء: يحبكم، بفتح الياء والإدغام.
وقرأ الزهري: فاتبعوني، بتشديد النون، ألحق فعل الأمر نون التوكيد وأدغمها في نون الوقاية، ولم يحذف الواو شبها: بأتحاجوني، وهذا توجيه شذوذ. قال
(٤٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 443 444 445 446 447 448 449 450 451 452 453 ... » »»