تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٤٤٧
وإذا جاء فقياسه الجزم لأنه أصل العمل في المضارع، تقدم الماضي أو تأخر، وتأول هذا المسموع على إضمار الفاء، وجعله مثل قول الشاعر:
إنك إن يصرغ أخوك تصرغ.
على مذهب من جعل الفاء منه محذوفة.
وأما المقدمون فاختلفوا في تخريج الرفع، فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم. وأما جواب الشرط فهو محذوف عنده.
وذهب الكوفيون، وأبو العباس إلى أنه هو الجواب حذفت منه الفاء، وذهب غيرهما إلى أنه لما لم تظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط، لكونه ماضيا، ضعف عن العمل في فعل الجواب، وهو عنده جواب لا على إضمار الفاء، ولا على نية التقديم، وهذا والمذهب الذي قبله ضعيفان.
وتلخص من هذا الذي قلناه: أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطا، لكن امتنع أن يكون: وما عملت، شرطا لعلة أخرى، لا لكون: تود، مرفوعا، وذلك على ما نقرره على مذه سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم، ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب، فنقول: إذا كان: تود، منويا به كالتقديم أدى إلى تقدم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية. ألا ترى أن الضمير في قوله: وبينه، عائد على اسم الشرط الذي هو: ما، فيصير التقدير: تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء؟ فيلزم من هذا التقدير تقدم المضمر على الظاهر، وذلك لا يجوز.
فإن قلت: لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط؟ فإن كان نيته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله، وذلك نظير: ضرب زيدا غلامه، فالفاعل رتبته التقديم ووجب تأخيره لصحة عود الضمير.
فالجواب: إن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل، بل إنما تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب. وإذا كان كذلك تدافع الأمر، لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضتها، فتدافعا. وهذا بخلاف: ضرب زيدا غلامه، هي جملة واحدة، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معا، وكل واحد منهما يقتضي صاحبه، ولذلك جاز عند بعضهم: ضرب غلامها هندا، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل، وامتنع: ضرب غلامها جار هند، لعدم الاشتراك في العامل، فهذا فرق ما بين المسألتين. ولا يحفظ من لسان العرب: أودلو أني أكرمه أيا ضربت هند، لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون، فلذلك لا يجوز تأخيره.
وقرأ عبد الله، وابن أبي عبلة: من سوء ودت لو أن، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون: ما، شرطية في موضع نصب، فعملت. أو في موضع رفع على إضمار الهاء في: عملت، على مذهب الفراء، إذ يجيز ذلك في اسم الشرط في فصيح الكلام، وتكون: ودت، جزاء الشرط.
قال الزمخشري: لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى، لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم، وأثبت لموافقة قراءة العامة. انتهى.
و: لو، هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف، ومفعول: تود، محذوف، والتقدير: تود تباعد ما بينهما لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا لسرت بذلك، وهذا الإعراب والتقدير هو على المشهور في: لو، و: أن، وما بعدها في موضع مبتدا على مذهب سيبويه، وفي موضع فاعل على مذهب أبي العباس.
وأما على قول من يذهب إلى أن: لو، بمعنى: أن، وأنها مصدرية فهو بعيد هنا لولايتها أن وأن مصدرية، ولا يباشر حرف مصدري حرفا مصدريا إلا
(٤٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 442 443 444 445 446 447 448 449 450 451 452 ... » »»