تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٤٠١
العلم بأنهم قالوا * (به إنه) * ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح، لأن من علم شيئا على التفصيل لا بد أن يؤمن به، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى، وقطعوا أنه الحق، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان، ولأنه لو كان: الراسخون، معطوف على: الله، للزم أن يكون: يقولون، خبر مبتدأ وتقديره: هؤلاء، أو: هم، فيلزم الإضمار، أو حال والمتقدم: الله والراسخون، فيكون حالا من الراسخين فقط، وفيه ترك للظاهر. ولأن قوله: * (كل من عند ربنا) * يقتضي فائدة، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عري عن الفائدة، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يقع جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، تعالى.
وسئل مالك، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. انتهى ما رجح به القول الأول، وفي ذلك نظر، ويؤيد هذا القول قراءة أبي، وابن عباس، فيما رواه طاووس عنه: إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به. وقراءة عبد الله: وابتغاء تأويله إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون.
ورجح ابن فورك القول الثاني وأطنب في ذلك، وفي قوله صلى الله عليه وسلم) لابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ما يبين ذلك، أي: علمه معاني كتابك. وكان عمر إذا وقع مشكل في كتاب الله يستدعيه ويقول له: غص غواص. ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب.
وقال ابن عطية: إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر، ولا لبس فيه، ويستوى فيه الراسخ وغيره. والمتشابه منه ما لا يعلمه إلا الله، كأمر الروح، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها، وغير ذلك. ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى * (وروح منه) * إلى غير ذلك. ولا يسمى راسخا إلا من يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ.
فقوله * (إلا الله) * مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعا، والراسخون يعلمون النوع الثاني، والكلام مستقيم على فصاحة العرب. ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول: ما قام لنصري إلا فلان وفلان، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك، والآخر أعانك بكلام فقط.
وإن جعلنا * (والرسخون) * مبتدأ مقطعوعا مما قبله، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع؟ وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام، وموارد الأحكام، ومواقع المواعظ؟.
وإعراب: الراسخين، يحتمل الوجهين، ولذلك قال ابن عباس بهما.
ومن فسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فقط، فتفسيره غير صحيح، لأنه تخصيص لبعض المتشابه. انتهى. وفيه بعض تلخيص، وفيه اختياره أنه معطوف على: الله، وإياه اختار الزمخشري. قال: لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله وعباده الذين رسخوا في العلم، أي ثبتوا فيه وتمكنوا، وعضوا فيه بضرس قاطع. ويقولون، كلام مستأنف موضح لحال الراسخين، بمعنى: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به، أي: بالمتشابه. انتهى كلامه.
وتلخص في إعراب * (والرسخون) * وجهان:.
أحدهما: أنه معطوف على قوله: الله، ويكون في إعراب: يقولون، وجهان: أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف. والثاني: أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين، كما تقول: ما قام إلا زيد وهند ضاحكة.
والثاني: من إعراب: والراسخون، أن يكون مبتدأ، ويتعين أن يكون: يقولون، خبرا عنه، ويكون من عطف الجمل.
وقيل: * (الراسخون فى العلم) * مؤمنو أهل الكتاب: كعبد الله بن سلام
(٤٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 396 397 398 399 400 401 402 403 404 405 406 ... » »»