تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٩٨
يقال لمكة: أم القرى، ولمرو: أم خراسان، و: أم الرأس: لمجتمع الشؤون، إذ هو أخطر مكان.
وقال ابن زيد: جماع الكتاب، ولم يقل: أمهات، لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر، وأحدهما أم للآخر، ونظيره * (وجعلنا ابن مريم وأمه ءاية) * ولم يقل: اثنين، ويحتمل أن يكون: هن، أي كل واحدة منهن، نحو: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) * أي كل واحد منهم. قيل: ويحتمل أن إفراد في موضع الجمع. نحو: * (وعلى سمعهم) * وقال الزمخشري: أم الكتاب أي أصل الكتاب، تحمل المتشابهات عليها، وترد إليها. ومثال ذلك: * (لا تدركه الابصار) * * (إلى ربها) * * (الله لا يأمر بالفحشاء) * * (أمرنا مترفيها) * إنتهى. وهذا على مذهبه الاعتزالي في أن الله لا يرى، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار. والمتشابه قوله: * (إلى ربها ناظرة) *.
وأهل السنة يعكسون هذا، أو يفرقون بين الإدراك والرؤية. وذكر من المحكم: * (وما كان ربك نسيا) * * (لا يضل ربى ولا ينسى) * ومتشابهه: * (نسوا الله فنسيهم) * ظاهر النسيان ضد العلم، ومرجوحه الترك. وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم، وما خالف فهو متشابه. فقوله: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * عند المعتزلة محكم * (وما * تشاءون إلا أن يشاء الله) * متشابه. وغيرهم بالعكس.
وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوحي لا بد فيه من دليل منفصل، فإن كان لفظيا فلا يتم إلا بحصول التعارض، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس، ولا قطع في الدليل اللفظي، سواء كان نصا وأرجح لتوقفه على أمور ظنية، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية. فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد، لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز، وتأويل على تأويل.
ومن الملاحدة من طعن في القرآن إلى يوم القيامة، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة) * * (وجعلنا على قلوبهم) *. والقدري يقول: هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله: * (وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر) * وفي موضع آخر: * (قولوا * قلوبنا غلف) *.
ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله: * (إلى ربها) * والآخرون، بقوله: * (وكيل لا تدركه الابصار) *. ومثبتو الجهة بقوله: * (يخافون ربهم من فوقهم) * وبقوله: * (على العرش استوى) * والآخرون بقوله: * (ليس كمثله شىء) * فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوع إليه هكذا؟ إنتهى كلام الفخر الرازي. وبعضه ملخص.
وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد، وأحسن ذلك ما ذكره الزمشخري. قاله:
فإن قلت: فهلا كان القرآن كله محكما؟
قلت: لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في استخراج معانيه، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم الجمة، ونيل الدرجات عند الله، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله، ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض
(٣٩٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 393 394 395 396 397 398 399 400 401 402 403 ... » »»