تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٠٨
ياأيها الناس اعبدوا ربكم) *، وثاني نداء أتى خاصا: * (خالدون يابنى إسراءيل اذكروا) *، وهي الطائفة العظيمة التي اشتملت على الملتين: اليهودية والنصرانية، وثالث نداء لأمة محمد صلى الله عليه وسلم) المؤمنين. فكان أول نداء عاما، أمروا فيه بأصل الإسلام، وهو عبادة الله. وثاني نداء، ذكروا فيه بالنعم الجزيلة، وتعبدوا بالتكاليف الجليلة، وخوفوا من حلول النقم الوبيلة وثالث نداء: علموا فيه أدبا من آداب الشريعة مع نبيهم، إذ قد حصلت لهم عبادة الله، والتذكير بالنعم، والتخويف من النقم، والاتعاظ بمن سبق من الأمم، فلم يبق إلا ما أمروا به على سبيل التكميل، من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه. والتبجيل والخطاب بيا أيها الذين آمنوا متوجه إلى من بالمدينة من المؤمنين، قيل: ويحتمل أن يكون إلى كل مؤمن في عصره. وروي عن ابن عباس: أنه حيث جاء هذا الخطاب، فالمراد به أهل المدينة، وحيث ورد يا أيها الناس، فالمراد أهل مكة.
* (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) *: بدىء بالنهي، لأنه من باب التروك، فهو أسهل. ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس، قبل بالنهي. ثم لم يكن نهيا عن شيء سبق تحريمه، ولكن لما كانت لفظة المفاعلة تقتضي الاشتراك غالبا، فصار المعنى: ليقع منك رعي لنا ومنا رعي لك، وهذا فيه ما لا يخفى مع من يعظم نهوا عن هذه اللفظة لهذه العلة، وأمروا بأن يقولوا: انظرنا، إذ هو فعل من النبي صلى الله عليه وسلم)، لا مشاركة لهم فيه معه. وقراءة الجمهور: راعنا. وفي مصحف عبد الله وقراءته، وقراءة أبي: راعونا، على إسناد الفعل لضمير الجمع. وذكر أيضا أن في مصحف عبد الله: ارعونا. خاطبوه بذلك إكبارا وتعظيما، إذ أقاموه مقام الجمع. وتضمن هذا النهي، النهي عن كل ما يكون فيه استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم). وقرأ الحسن، وابن أبي ليلى، وأبو حياة، وابن محيصن: راعنا بالتنوين، جعله صفة لمصدر محذوف، أي قولا راعنا، وهو على طريق النسب كلابن وتامر. لما كان القول سببا في السبب، اتصف بالرعن، فنهوا في هذه القراءة عن أن يخاطبوا الرسول بلفظ يكون فيه، أو يوهم شيئا من الغض، مما يستحقه صلى الله عليه وسلم) من التعظيم وتلطيف القول وأدبه.
وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود كانت تقصد بذلك، إذ خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) الرعونة، وكذا قيل في راعونا، إنه فاعولا من الرعونة، كعاشورا. وقيل: كانت لليهود كلمة عبرانية، أو سريانية يتسابون بها وهي: راعينا، فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا، اقترضوه وخاطبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهم يعنون تلك المسبة، فنهي المؤمنون عنها، وأمروا بما هو في معناها. ومن زعم أن راعنا لغة مختصة بالأنصار، فليس قوله بشيء، لأن ذلك محفوظ في جميع لغة العرب. وكذلك قول من قال: إن هذه الآية ناسخة لفعل قد كان مباحا، لأن الأول لم يكن شرعا متقررا قبل. وقيل في سبب نزولها غير ذلك. وبالجملة، فهي كما قال محمد بن جرير: كلمة كرهها الله أن يخاطب بها نبيه، كما قال صلى الله عليه وسلم): (لا تقولوا عبدي وأمتي وقولوا فتاي وفتاتي ولا تسموا العنب الكرم). وذكر في النهي وجوه: إن معناها اسمع لا سمعت، أو إن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند المفر، قاله قطرب، أو أن اليهود كانوا يقولون: راعينا أي راعي غنمنا، أو أنه مفاعلة فيوهم مساواة، أو معناه راع كلامنا ولا تغفل عنه، أو لأنه يتوهم أنه من الرعونة. وقوله: انظرنا، قراءة الجمهور، موصول الهمزة، مضموم الظاء، من النظرة، وهي التأخير، أي انتظرنا وتأن علينا، نحو قوله:
* فإنكما إن تنظراني ساعة * من الدهر تنفعني لدى أم جندب *
(٥٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 503 504 505 506 507 508 509 510 511 512 513 ... » »»