تفسير القرطبي - القرطبي - ج ٧ - الصفحة ٤٠
قوله تعالى: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) " من " في موضع خفض، أي ومن أظلم ممن قال سأنزل، والمراد عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ولحق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في " المؤمنون ": " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (1) " دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله " ثم أنشأنا خلقا آخر " عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال: " تبارك الله أحسن الخالقين ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(وهكذا أنزلت على) فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلى كما أوحى إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، فذلك قوله: " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " رواه الكلبي عن ابن عباس. وذكره محمد بن إسحاق قال حدثني شرحبيل قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " ارتد عن الإسلام، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر بقتله وقتل عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة، ففر عبد الله بن أبي سرح إلى عثمان رضي الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان، فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: (نعم). فلما انصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه). فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟ فقال: (إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين (2). قال أبو عمر:
وأسلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيام الفتح فحسن إسلامه، ولم يظهر منه ما ينكر عليه بعد ذلك. وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وفارس بني عامر بن لؤي المعدود فيهم، ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر سنة خمس وعشرين. وفتح على يديه إفريقية سنة سبع وعشرين، وغزا منها الأساود من أرض النوبة سنة إحدى وثلاثين، وهو هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم.

(1) راجع ج 12 ص 108.
(2) أي يضمر في نفسه غير ما يظهره فإذا كف لسانه وأومأ بعينه فقد خان.
(٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 ... » »»