وتيقظت عن سنة غفلتها وتفطنت لقدس جوهرها وطلبت مركزها وغايتها لأمرين:
صلاحية الآلات للاستعمال في الاستكمال وفراغها عن تخصيص البدن بالإقبال لقلة الأشغال، لكنها ما دامت سن النمو باقية وزيادة الآلاف في القوة والشدة ممكنة ما توجهت بالكلية إلى الجهة العلوية وما تجردت لتحصيل الكمالات العقلية والمطالب القدسية للاشتغال المذكور وإن قل وذلك إلى منتهى الثلثين من السن كما تبين في علم الطب، فلما جاوزتها وأخذت في سن الوقوف أقبلت إلى عالمها وأشرقت أنوار فطرتها فاشتدت في طلب كمالها لوقوع الفراغ لها إليها، فأخذ كافل الأيتام الحقيقية الذي هو روح القدس أن آنس رشدها في دفع أموالها التي هي الحقائق والمعارف والعلوم والحكم إليها، لبلوغها نكاح الغواني من المفارقات القدسية والنورانيات الجبروتية وذلك وقت سيرها في صفات الله إلى ذات الله حتى الفناء التام بالاستغراق في عين الجمع لإمكان السير في أفعاله من وقت الأشد الصوري إلى أشد هذا الأشد المعنوي الذي نهايته الأربعون تقريبا. ولهذا قيل: الصوفي بعد الأربعين أبذ، إذ لم يستعد بالتوجه والطلب والسير في الأفعال بالتزكية لقبول تلك الأموال والتصرف فيها فلم يأنس روح القدس منه الرشد فلم يدفع إليه، وإذا تم سيره في الله عند ذلك الأشد بالفناء فيه كان وقت البقاء بعد الفناء وأوان الاستقامة في العمل.
وأشار إليها بقوله: * (رب أوزعني) * ولهذا لم يبعث نبي قط إلا بعد الأربعين سوى عيسى ويحيى ومع ذلك وقفا في بعض السماوات. ولما كانت النعم أوابد يجب تقييدها بالشكر استوزع الشكر على نعمة الكمال الحاصل المسبوق بالنعم الغير المتناهية لمحافظتها لئلا يحتجب برؤية الفناء فيترك الطاعة تبرما لحاله واتكالا على كماله، فإن آفة مقام الفناء رؤية الفناء والمبتلى بها يقع في التلوين ويحرم نعمة التمكين، ولهذا قال عليه السلام: ' أفلا أكون عبدا شكورا '. فطلب محافظة نعمة الهداية والكمال عليه بإيقافه على الطاعات التي هي شكر نعمته التي أنعم بها عليه وعلى والديه اللذين هما السبب القريب لوجوده إذ لو لم يكن فيهما خير وخلق حسن وسر صالح لم يظهر عليه ذلك الكمال لأنه سرهما ولهذا وجب الإحسان والدعاء بالوالدين ولهما * (وأن أعمل صالحا) * بتكميل المستعدين فإن الواجب على الكامل أولا محافظة كماله ثم تكميل المستكملين، إذ العمل إنما هو من الأمور النسبية فربما كان صالحا بالنسبة إلى أحد سيئا بالنسبة إلى غيره، كما قال: ' حسنات الأبرار سيئات المقربين '. ولهذا قال: * (وأصلح لي في ذريتي) * أي: أولادي الحقيقية سواء كانوا صلبية أو لا لأن علمه الصالح الذي هو التكميل وتربية المريدين لا ينجع إلا بعد تهيئ استعدادهم والصلاح في أعمالهم وأحوالهم وذلك من فيضة الأقدس، ولو لم يكن هذا الصلاح والقبول التام الذي لا