تفسير ابن عربي - ابن العربي - ج ٢ - الصفحة ١٧٩
وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه. ثم عمد إلى السماكين يخدمهم، فمكث على ذلك أربعين صباحا ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان، فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم، فتختم به وخر ساجدا ورجع إليه ملكه وجاب صخرة لصخر فجعله فيها وقذفه في البحر.
فإن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع كان قد اشتد تلوينه وابتلى بمثل ما ابتلي به ذو النون وآدم عليهما السلام، والحكاية من موضوعات حكماء اليهود وعظمائهم كسائر ما وضعت الحكماء في تمثيلاتهم من حكايات إيسال وسلامان وأمثالها، وتأويلها والله أعلم بصحتها ووضعها: أن سليمان قصد مدينة صيدون البدن، جزيرة في بحر الهيولى، وقتل ملكها النفس الأمارة العظيم الشأن ظاهر الطغيان بالمجاهدة في سبيل الله، وأصاب بنتا له اسمها جرادة وهي القوى المتخيلة بالطيارة كالجرادة، تجرد أشجار الأجسام والأشياء كلها بنزع صورها عن موادها مكتوفة بلواحقها حزينة، وهي من أحسن الناس صورة في تزيينها وتسويلها نفسها وما تخيلته من مدركاتها، وأسلمت على يده، أي: انقادت للعقل ورجعت عن دين الوهم، فصارت مفكرة، فاصطفاها لنفسه وأحبها لتوقف حصول كماله عليها، وحزنها على أبيها: ميلها إلى النفس بطبعها وتأسفها على فوات حظوظها. وأمره للشيطان بتمثيل صورة أبيها وكسوتها مثل كسوته هو إشارة إلى منشأ تلوينه وابتلائه بالميل إلى النفس واغتراره بكماله واشتغاله بحظوظ النفس قبل أوانه، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ' نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى '.
وطاعة الشيطان له: تسخير القوة الوهمية له في إعادة النفس إلى الهيئة الأولى وإن لم تكن على قوتها الأولى، وحياتها من الهوى: لكونه مصونا عن الاحتجاب معنيا به في العناية، وسجود جرادة وولائدها له كعادتهن في ملكه: تعبد الفكرية وسائر القوى البدنية للنفس بالانقياد والمراعاة والخدمة وإيصال الحظوظ إليها كعادتهن في الجاهلية الأولى، وإخبار آصف سليمان بذلك: تنبيه العقل للقلب على تلوينه عند قرب موته، وكسر الصورة وعقاب المرأة: ندامته وتوبته عن حاله، وتنصله متضرعا إلى الله وكسره للنفس بالرياضة وخروجه وحده إلى الفلاة: تجرده عن البدن عند سقوط قواه، وفرش الرماد وجلوسه فيه: تغير المزاج وترمد الأخلاط مع بقاء العلاقة البدنية، وأم الولد المسماة أمينة هي: الطبيعة البدنية أم الأولاد القوى النفسانية التي يضع هو خاتم بدنه عندها وقت الاشتغال بالأمور الطبيعية والضروريات البدنية كالدخول في الخلوة وإصابة المرأة وأمثالها، وهي أمينة على حفظه. وكونه ملكه في خاتمه: إشارة إلى توقف كماله المعنوي والصوري على البدن، والشيطان الذي جاءها فأخذ منها الخاتم: هو الطبيعة العنصرية الأرضية صاحب بحر الهيولى السفلية سمي صخرا لميله إلى السفل وملازمته
(١٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 174 175 176 177 178 179 180 181 182 183 184 ... » »»