تفسير الرازي - الرازي - ج ١ - الصفحة ١٨٦
الاتصال بالأرواح الخبيثة يوجب الخيبة والخسران والخذلان والحرمان، فلهذا قال: * (غير المغضوب عليهم) * وهم الفساق * (ولا الضالين) * وهم الكفار.
ولما تمت هذه الدرجات الثلاث وكملت هذه المقامات الثلاثة - أعني الشريعة المدلول عليها بقوله: * (إياك نعبد) *، والطريقة المدلول عليها بقوله: * (وإياك نستعين) *، والحقيقة المدلول عليها بقوله: * (إهدنا الصراط المستقيم) * - ثم لما حصل الاستسعاد بالاتصال بأرباب الصفاء والاستكمال بسبب المباعدة عن أرباب الجفاء والشقاء، فعند هذا كملت المعارج البشرية والكمالات الإنسانية.
المسألة الثالثة: في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة، اعلم أن الإنسان خلق محتاجا إلى جر الخيرات واللذات، ودفع المكروهات والمخافات، ثم إن هذا العالم عالم الأسباب فلا يمكنه تحصيل الخيرات واللذات إلا بواسطة أسباب معينة، ولا يمكنه دفع الآفات والمخافات إلا بواسطة أسباب معينة، ولما كان جلب النفع ودفع الضرر محبوبا بالذات، وكان استقراء أحوال هذا العالم يدل على أنه لا يمكن تحصيل الخير ولا دفع الشر إلا بتلك الأسباب المعينة، ثم تقرر في العقول أن ما لا يمكن الوصول إلى المحبوب إلا بواسطته فهو محبوب - صار هذا المعنى سببا لوقوع الحب الشديد لهذه الأسباب الظاهرة، وإذا علم أنه لا يمكنه الوصول إلى الخيرات واللذات إلا بواسطة خدمة الأمير والوزير والأعوان والأنصار بقي الإنسان متعلق القلب بهذه الأشياء، شديد الحب لها، عظيم الميل والرغبة إليها، ثم قد ثبت في العلوم الحكمية أن كثرة الأفعال سبب لحدوث الملكات الراسخة وثبت أيضا أن حب التشبه غالب على طباع الخلق. أما الأول فكل من واظب على صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف مدة مديدة صارت تلك الحرفة والصناعة ملكة راسخة قوية وكلما كانت المواظبة عليها أكثر كانت الملكة أقوى وأرسخ. وأما الثاني فهو أن الإنسان إذا جالس الفساق مال طبعه إلى الفسق، وما ذاك إلا لأن الأرواح جبلت على حب المحاكاة وإذا عرفت هذا فنقول: إنا بينا أن استقراء حال الدنيا يوجب تعلق القلب بهذه الأسباب الظاهرة التي بها يمكن التوسل إلى جر المنافع ودفع المضار، وبينا أنه كلما كانت مواظبة الإنسان عليها أكثر كان استحكام هذا الميل والطلب في قلبه أقوى وأثبت، وأيضا فأكثر أهل الدنيا موصوفون بهذه الصفة مواظبون على هذه الحالة. وبينا أن النفوس مجبولة على حب المحاكاة وذلك أيضا يوجب استحكام هذه الحالة. فقد ظهر بالبينات التي ذكرناها أن الأسباب
(١٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 181 182 183 184 185 186 187 188 189 190 191 ... » »»