أحكام القرآن - ابن العربي - ج ٣ - الصفحة ١٩٢
يذهب ما فيها ومنه المثل المضروب في سورة الرعد (* (إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه) *) الرعد 14 في أحد وجهي تأويله كأنه حمله على التوسط في المنع والدفع كما قال قال (* (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) *) الفرقان 67 فيؤول معنى الكلام إلى أوجه ثلاثة الأول لا يمتنع عن نفقته في الخير ولا ينفق في الشر الثاني لا يمنع حق الله ولا يتجاوز الواجب لئلا يأتي من يسأل فلا يجد عطاء الثالث لا تمسك كل مالك ولا تعط جميعه فتبقى ملوما في جهات المنع الثلاث محسورا أي منكشفا في جهة البسط والعطاء للكل أو لسائر وجوه العطاء المذمومة المسألة الثالثة هذا خطاب للنبي والمراد أمته وكثيرا ما جاء في القرآن فإن النبي لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب في ذلك فإنه كان قد خيره الله في الغنى والفقر فاختار الفقر يجوع يوما ويشبع يوما ويشد على بطنه من الجوع حجرين وكان على ذلك صبارا وكان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه النضير وفدك وخيبر ثم يصرف ما بقي في الحاجات حتى يأتي أثناء الحول وليس عنده شيء فلم يدخل في هذا الخطاب بإجماع من الأمة لما هو عليه من الخلال والجلال وشرف المنزلة وقوة النفس على الوظائف وعظيم العزم على المقاصد فأما سائر الناس فالخطاب عليهم وارد والأمر والنهي كما تقدم إليهم متوجه إلا أفرادا خرجوا من ذلك بكمال صفاتهم وعظيم أنفسهم منهم أبو بكر الصديق خرج عن جميع ماله للنبي فقبله منه لله سبحانه وأشار على أبي لبابة وكعب بالثلث من جميع مالهم لنقصهم عن هذه المرتبة في أحوالهم وأعيان من الصحابة كانوا على هذا فأجراهم النبي وائتمروا بأمر الله واصطبروا على بلائه ولم تتعلق قلوبهم بدنيا ولا ارتبطت أبدانهم بمال منها وذلك لثقتهم بموعود الله في الرزق وعزوب أنفسهم عن التعلق بغضارة الدنيا
(١٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 187 188 189 190 191 192 193 194 195 196 197 ... » »»