تفسير الثعلبي - الثعلبي - ج ٧ - الصفحة ٣٠
الشيطان على لسانه لما كان يحدث به نفسه ويتمناه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود، وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل لها محمد نصيبا فنحن معه، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم يقل لك، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كبيرا فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغهم سجود قريش، وقيل: قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره، وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله (عليه السلام) قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم.
" * (وما أرسلنا من قبلك من رسول) *) وهو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عيانا وشفاها " * (ولا نبي) *) وهو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما " * (إلا إذا تمنى) *) أي أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه ما لم يؤمر به.
" * (ألقى الشيطان في أمنيته) *) أي مراده ووجد إليه سبيلا، وقال أكثر المفسرين: يعني بقوله: تمنى أي تلا وقرأ كتاب الله سبحانه " * (القي الشيطان في أمنيته) *) أي قراءته، وتلاوته، نظيره قوله سبحانه " * (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) *) يعني قراءة يقرأ عليهم.
وقال الشاعر في عثمان ح حين قتل:
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخره لاقى حمام المقادر وسمعت أبا القاسم الحبيب يقول: سمعت أبا الحسن علي بن مهدي الطبري يقول: ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شيء وإنما هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صفرت يده من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنى الدنيا بقلبه وسوسة من الشيطان.
وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلى الملائكة يعني أن الشفاعة ترتجى منهم لا من الأصنام، وهذا قول ليس بالقوي ولا بالمرضى لقوله " * (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) *) أي يبطله ويذهبه " * (ثم يحكم الله آياته) *) فيثبتها " * (والله عليم حكيم) *).
فإن قيل: فما وجه جواز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم فعنه جوابان:
أحدهما: أنه على سبيل السهو والنسيان وسبق اللسان فلا يلبث أن ينبهه الله سبحانه ويعصمه.
والثاني: أن ذلك إنما قاله الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء قراءته وأوهم أنه من القرآن وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتلوه، قال الله سبحانه " * (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض) *) فيشكون في ذلك.
" * (والقاسية قلوبهم) *) فلا تلين لأمر الله " * (وإن الظالمين) *) الكافرين " * (لفي شقاق بعيد وليعلم
(٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 ... » »»