تفسير الثعلبي - الثعلبي - ج ٦ - الصفحة ٧٣
خواء زمانا خربة مواتا لا عمران فيها وكان لها رب حكيم قوي، فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنبط نهرا وصنف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيما ذا رأي وهمة ومتعة حفيظا قويا أمينا وانتظرها فلما أطلعت جاء طلعها خروبا قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدارها وقصورها ويدفن نهرها ويقبض قيمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها .
قال الله لهم: فإن الجدار ذمتي وإن القصر شريعتي وإن النهر كتابي وإن القيم نبي وإن الغراس هم وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وإنهم مثل ضربه الله تعالى لهم يتقربون إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا أكله، ويدعون أن يتقربون إلي بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لي البيوت مساجدا ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها، فأي حاجة إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، أم أي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها، يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على (أن) يفقه قلوبنا لفقهها فأعمد إلى عودين يابسين، ثم ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون فقل للعودين: إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا ففعل، ذلك في مجلسه إختلطا فصارا واحدا، فقال الله لهم: إني قد قدرت على أن أفقه العيدان اليابسة وعلى أن أؤالف بينهما فكيف لا أقدر على أن أجمع إلفهتم إن شئت، أم كيف لا أقدر على أن أفقه قلوبهم وأنا الذي صورتها.
يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل (حنين الحمام) وبكينا مثل عواء الذئب في مكان ذلك لا نسمع ولا يستجاب لنا قال الله: فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم، ألست أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين؟ الآن ذلت يدي؟
قلت: كيف ويداي مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء ومفاتح الخزائن عندي لا يفتحها غيري أو لأن رحمتي ضاقت فكيف ورحمتي وسعت كل شيء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها أو لأن (البخل يعتريني) أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات؟ أجود من أعطي وأكرم من سئل لو أن هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم فنبذوها وإشتروا بها الدنيا إذا لأبصروا من حيث أتو وإذا لأيقنوا أن أنفسهم (هي) أعدى العداة فيهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور (ويتقوون) عليه بطعمة الحرام؟ وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني وينتهك محارمي، أم كيف تزكوا عندي صدقاتهم؟ وهم يتصدقون بأموال غيرهم وإنما أؤجر عليها أهلها المغصوبين، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم؟ وإنما هو قول بألسنتهم
(٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 ... » »»