وإن كان ما ساقه لغرض مثل أن يكون قارنا أو متمتعا جاز له أن يأكل ويطعم غيره، فهذا معنى الاحصار وحكمه، فأما المرض وما أشبهه فان له أن يتداوى فيما لابد منه ويفدى ثم يجعلها عمرة ويحج عام قابل ويهدي، وقوله تعالى " * (فما استيسر) *) أي عليه ما تيسر، محله رفع، وإن شئت جعلت بها في محل النصب أي قاهر، واما استيسر من الهدي مثل جدية السرج وجمعها جدي قاله أبو عمرو. قال: لا أعلم في الكلام ثالثهما.
وقرأ الأعرج: (الهدي) بكسر الدال وتشديد الياء في جميع القرآن على معنى المفعول.
وروى عصمة عن عاصم: بتشديد الهدي في محل الرفع والجر وتخفيفه في حال النصب نحو قوله " * (هديا بالغ الكعبة) *) * * (ولا الهدي ولا القلائد) *) وهما جميعا ما يهدي إلى بيوت الله سمي بذلك لأنه تقرب إلى الله بمنزلة الهدية يهديها الانسان إلى غيره متقربا بما بعث إليه.
واختلفوا في تأويل قوله " * (فما استيسر من الهدي) *). فقال علي وابن عباس: شاة.
وقال ابن عمر: فما استيسر من الهدي: الإبل والبقر ناقة دون ناقة وبقرة دون بقرة سن دون سن وأنكر أن يكون الشاة من الهدي، وأقوى الأقوال بالصواب قول من قال إنه شاة، لأنه أقرب إلى التيسر، ولأن الله سمي الشاة هديا في قوله " * (هديا بالغ الكعبة) *) وفي الظبي شاة. " * (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) *)، واختلفوا في المحل الذي يحل المحصر بلوغ هديه إليه فقال بعضهم: هو ذبحه أو نحره بالموضع الذي يحصر فيه سواء كان في الحل أو الحرم ومعنى محله: حين يحل ذبحه وأكله والانتفاع به كقوله صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به عليه بريرة قال: (قربوه فقد بلغ محله) يعني فقد بلغ محل طيبه وحلاله بالهدية الينا بعد إن كانت صدقة على بريرة: وهذا على قول من جعل الاحصار إحصار العدو.
يدل عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حتى صدوا عن البيت ونحروا هديهم بها والحديبية ليست من الحرم.
روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال: لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب القضية بينه وبين مشركي قريش عام الحديبية فقال لأصحابه: (قوموا فانحروا واحلقوا) قال: فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام فدخل على أم سلمة فذكر ذلك لها، فقالت أم سلمة: يا رسول الله أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنتك وتدعو حلاقك فتحلق فخرج فلم يتكلم حتى فعل ذلك، فلما رأوا ذلك قاموا ونحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم (يقتل) بعضا غما.