أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٦
الاستدلال على التوحيد من الشرائع السمعية وهو على الجميع، وقد بينا ذلك في أصول الفقه.
قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار). يقال إن الإدراك أصله اللحوق، نحو قولك: أدرك زمان المنصور، وأدرك أبا حنيفة، وأدرك الطعام أي لحق حال النضج، وأدرك الزرع والثمرة، وأدرك الغلام إذا لحق حال الرجال. و إدراك البصر للشئ لحوقه له برؤيته إياه، لأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن قول القائل: أدركت ببصري شخصا معناه رأيته ببصري، ولا يجوز أن يكون الإدراك الإحاطة لأن البيت محيط بما فيه وليس مدركا له، فقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) معناه: لا تراه الأبصار، وهذا تمدح بنفي رؤية الأبصار كقوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) [البقرة: 255]، وما تمدح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضده ذم ونقص، فغير جائز إثبات نقيضه بحال، كما لو بطل استحقاق الصفة ب‍ (لا تأخذه سنة ولا نوم) لم يبطل إلا إلى صفة نقص، فلما تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال، إذ كان فيه إثبات صفة نقص.
ولا يجوز أن يكون مخصوصا بقوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22 و 23] لأن النظر محتمل لمعان، منه انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف، فلما كان ذلك محتملا للتأويل لم يجز الاعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه. والأخبار المروية في الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحت، وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك، لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة.
قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا) معناه: لو شاء الله أن يكونوا على ضد الشرك من الإيمان قسرا ما أشركوا لأن المشيئة إنما تتعلق بالفعل أن يكون لا بأن لا يكون، فمتعلق المشيئة محذوف، وإنما المراد بهذه المشيئة الحال التي تنافي الشرك قسرا بالاقتطاع عن الشرك عجزا ومنعا وإلجاء فهذه الحال لا يشاءها الله تعالى لأن المنع من المعصية بهذه الوجوه منع من الطاعة وإبطال للثواب والعقاب في الآخرة.
قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم). قال السدي: " لا تسبوا الأصنام فيسبوا من أمركم بما أنتم عليه من عيبها ". وقيل: " لا تسبوا الأصنام فيحملهم الغيظ والجهل على أن يسبوا من تعبدون كما سببتم من يعبدون ". وفي ذلك دليل على أن المحق عليه أن يكف عن سب السفهاء الذين يتسرعون إلى سبه على وجه المقابلة له لأنه بمنزلة البعث على المعصية.
قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) ظاهره أمر ومعناه الإباحة، كقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) [المائدة: 2] فإذا قضيت
(٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 ... » »»