أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٥٠٣
من الانتفاع بأكله؟ فكان جائزا أن يتعبد بإتلافه ويحظر الانتفاع بأكله بعده.
وقوله تعالى: (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) روي عن ابن عباس أن امرأة أيوب قال لها إبليس: إن شفيته تقولين لي أنت شفيته، فأخبرت بذلك أيوب فقال:
" إن شفاني الله ضربتك مائة سوط "، فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة. قال عطاء: وهي للناس عامة. وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) فأخذ عودا فيه تسعة وتسعون عودا والأصل تمام المائة، فضرب به امرأته، وذلك أن امرأته أرادها الشيطان على بعض الأمر فقال لها: قولي لزوجك يقول كذا وكذا! فقالت له: قل كذا وكذا! فحلف حينئذ أن يضربها، فضربها تحلة ليمينه وتخفيفا على امرأته.
قال أبو بكر: وفي هذه الآية دلالة على أن من حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلها وضربه ضربة واحدة أنه يبر في يمينه إذا أصابه جميعها، لقوله تعالى:
(وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث)، والضغث هو ملء الكف من الخشب أو السياط أو الشماريخ ونحو ذلك، فأخبر الله تعالى أنه إذا فعل ذلك فقد بر في يمينه لقوله: (ولا تحنث).
وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد: " إذا ضربه ضربة واحدة بعد أن يصيبه كل واحدة منه فقد بر في يمينه ". وقال مالك والليث:
" لا يبر ". وهذا القول خلاف الكتاب، لأن الله تعالى قد أخبر أن فاعل ذلك لا يحنث.
وقد روي عن مجاهد أنه قال: " هي لأيوب خاصة ". وقال عطاء: " للناس عامة ". قال أبو بكر: دلالة الآية ظاهرة على صحة القول الأول من وجهين، أحدهما: أن فاعل ذلك يسمى ضاربا لما شرط من العدد وذلك يقتضي البر في يمينه، والثاني: أنه لا يحنث لقوله: (ولا تحنث). وزعم بعض من يحتج لمذهب مالك أن ذلك لأيوب خاصة، لأنه قال: (فاضرب به ولا تحنث)، فلما أسقط عنه الحنث كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة فأداها أو بمنزلة من لم يحلف على شيء، وهذا حجاج ظاهر السقوط لا يحتج بمثله من يعقل ذلك لتناقضه واستحالته ومخالفته لظاهر الكتاب، وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه إذا فعل ذلك لم يحنث، واليمين تتضمن شيئين حنثا أو برا، فإذا أخبر الله أنه لا يحنث فقد أخبر بوجود البر، إذ ليس بينهما واسطة، فتناقضه واستحالته من جهة أن قوله هذا يوجب أن كل من بر في يمينه بأن يفعل المحلوف عليه كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة على قضيته لسقوط الحنث، ولو كان لأيوب خاصة وكان عبادة تعبد بها دون
(٥٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 498 499 500 501 502 503 504 505 506 507 508 ... » »»