أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٠٤
يرد علي القدح حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده ونظر إلي فتبسم وقال: " يا أبا هر! " قلت: لبيك يا رسول الله! قال:
" بقيت أنا وأنت " قلت: صدقت يا رسول الله، قال: " فاقعد واشرب! " فشربت، فما زال يقول اشرب فأشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا! قال: " فأرني! " فأعطيته القدح، فحمد الله وشرب الفضل. فقال: فقد استأذن أهل الصفة وقد جاؤوا مع الرسول ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مخالف لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الرجل إلى الرجل إذنه. قيل له: ليسا مختلفين، لأن قوله صلى الله عليه وسلم إباحة للدخول مع الرسول وليس فيه كراهية الاستئذان بل هو مخير حينئذ، وإذا لم يكن مع الرسول وجب حينئذ الاستئذان، والذي يدل على أن الإذن مشروط في قوله: " حتى تستأنسوا " قوله في نسق التلاوة: (فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم)، فحظر الدخول إلا بالإذن، فدل على أن الإذن مشروط في إباحة الدخول في الآية الأولى. وأيضا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأخبار التي قدمناها: " إنما جعل الاستئذان من أجل النظر "، فدل على أنه لا يجوز النظر في دار أحد إلا بإذنه. وقد روي في ذلك ضروب من التغليظ، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا حماد عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس بن مالك: " أن رجلا اطلع من بعض حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أو بمشاقص، قال: فكأني أنظر إلى رسول الله يختله ليطعنه ". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن قال: حدثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن كثير عن الوليد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخل البصر فلا إذن ". وحدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد عن سهيل عن أبيه قال:
حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه ".
قال أبو بكر: والفقهاء على خلاف ظاهره، لأنهم يقولون إنه ضامن من إذا فعل ذلك، وهذا من أحاديث أبي هريرة التي ترد لمخالفتها الأصول، مثل ما روي أن ولد الزنا شر الثلاثة، وأن ولد الزنا لا يدخل الجنة، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ومن غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ، هذه كلها أخبار شاذة قد اتفق الفقهاء على خلاف ظواهرها. وزعم الشافعي أن من اطلع في دار غيره ففقأ عينه وهو هدر وذهب إلى ظاهر هذا الخبر ولا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامنا وكان عليه القصاص إن كان عامدا والأرش إن كان مخطئا، ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الاطلاع
(٤٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 399 400 401 402 403 404 405 406 407 408 409 ... » »»