أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٩٧
وقوله تعالى: (لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم) يعني والله أعلم: عقاب ما اكتسب من الإثم على قدر ما اكتسبه.
وقوله تعالى: (والذي تولى كبره)، روي أنه عبد الله بن أبي بن سلول وكان منافقا، وكبره هو عظمه وإن عظم ما كان فيه، لأنهم كانوا يجتمعون عنده وبرأيه وأمره كانوا يشيعون ذلك ويظهرونه، وكان هو يقصد بذلك أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى أبي بكر والطعن عليهما.
قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين)، هو أمر المؤمنين بأن يظنوا خيرا بمن كان ظاهره العدالة وبراءة الساحة وأن لا يقضوا عليهم بالظن، وذلك لأن الذين قذفوا عائشة لم يخبروا عن معاينة وإنما قذفوها تظننا وحسبانا لما رأوها متخلفة عن الجيش قد ركبت جمل صفوان بن المعطل يقوده.
وهذا يدل على أن الواجب لمن كان ظاهره العدالة أن يظن به خيرا ولا يظن به شرا، وهو يوجب أن يكون أمور المسلمين في عقودهم وأفعالهم وسائر تصرفهم محمولة على الصحة والجواز وأنه غير جائز حملها على الفساد وعلى ما لا يجوز فعله بالظن والحسبان، ولذلك قال أصحابنا فيمن وجد مع امرأة أجنبية رجلا فاعترفا بالتزويج: إنه لا يجوز تكذيبهما بل يجب تصديقهما، وزعم مالك بن أنس أنه يحدهما إن لم يقيما بينة على النكاح. ومن ذلك أيضا ما قال أصحابنا فيمن باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين:
إنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بحسن الظن بالمؤمنين وحمل أمورهم على ما يجوز فوجب حمله على ما يجوز وهو المخالفة بينهما، وكذلك إذا باعه سيفا محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم أنا نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف، فنحمل أمرهما على أنهما تعاقدا عقدا جائزا ولا نحمله على الفساد وما لا. يجوز وهذا يدل أيضا على صحة قول أبي حنيفة في أن المسلمين عدول ما لم تظهر منهم ريبة، لأنا إذا كنا مأمورين بحسن الظن بالمسلمين وتكذيب من قذفهم على جهة الظن والتخمين بما يسقط العدالة، فقد أمرنا بموالاتهم والحكم لهم بالعدالة بظاهر حالهم، وذلك يوجب التزكية وقبول الشهادة ما لم تظهر منهم ريبة توجب التوقف عنها أو ردها، وقال تعالى: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) [يونس: 36]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم والظن فإنه أكذب الحديث ".
وقوله: (ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) فإنه يحتمل معنيين، أحدهما:
أن يظن بعضهم ببعض خيرا، كقوله: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) [النور:
61] والمعنى: فليسلم بعضكم على بعض، وكقوله: (لا تقتلوا أنفسكم) [النساء: 29] يعني: لا يقتل بعضكم بعضا. والثاني: أنه جعل المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما
(٣٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 392 393 394 395 396 397 398 399 400 401 402 ... » »»