عوف والزبير و طلحة: أنشدكم بالله الذي به تقوم السماوات و الأرض أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا صدقة "؟ قالوا: نعم. فقد ثبت برواية هذه الجماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء لا يورثون المال، ويدل على أن زكريا لم يرد بقوله: " يرثني " المال، أن نبي الله لا يجوز أن يأسف على مصير ماله بعد موته إلى مستحقه، وأنه إنما خاف أن يستولي بنو أعمامه على علومه وكتابه فيحرفونها ويستأكلون بها فيفسدون دينه ويصدون الناس عنه.
قوله تعالى: (إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا)، فيه الدلالة على أن ترك الكلام واستعمال الصمت قد كان قربة، لولا ذلك لما نذرته مريم عليها السلا ولما فعلته بعد النذر. وقد روى معمر عن قتادة في قوله: (إني نذرت للرحمن صوما) قال: في بعض الحروف: " صمتا " ويدل على أن مرادها الصمت. قولها: (فلن أكلم اليوم إنسيا) وهذا منسوخ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه نهى عن صمت يوم إلى الليل ".
وقال السدي: كان من صام في ذلك الزمان لا يكلم الناس فأذن لها في هذا المقدار من الكلام، وقد كان الله تعالى حبس زكريا عن الكلام ثلاثا وجعل ذلك آية له على الوقت الذي يخلق له فيه الولد، فكان ممنوعا من الكلام من غير آفة ولا خرس.
قوله تعالى: (فخرج على قومه من المحراب). قال أبو عبيدة: المحراب صدر المجلس، ومنه محراب المسجد. وقيل: إن المحراب الغرفة، ومنه قوله تعالى: (إذ تسوروا المحراب) [ص: 21]. وقيل: المحراب المصلى.
وقوله تعالى: (فأوحى إليهم)، قيل فيه: إنه أشار إليهم وأومأ بيده، فقامت الإشارة في هذا الموضع مقام القول، لأنها أفادت ما يفيده القول، وهذا يدل على أن إشارة الأخرس معمول عليها قائمة فيما يلزمه مقام القول. ولم يختلف الفقهاء أن إشارة الصحيح لا تقوم مقامه قوله، وإنما كان في الأخرس كذلك لأنه بالعادة والمران والضرورة الداعية إليها قد علم بها ما يعلم بالقول، وليس للصحيح في ذلك عادة معروفة فيعمل عليها، ولذلك قال أصحابنا فيمن اعتقل لسانه فأومأ وأشار بوصية أو غيرها أنه لا يعمل على ذلك لأنه ليس له عادة جارية بذلك حتى يكون في معنى الأخرس.
قوله تعالى: (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا). قال قائلون: إنما تمنت الموت للحال التي دفعت إليها من الولادة من غير ذكر. وهذا خطأ، لأن هذه حال كان الله تعالى قد ابتلاها بها وصيرها إليها وقد كانت هي راضية بقضاء الله تعالى لها بذلك مطيعة لله وتسخط فعل الله وقضائه معصية لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو صواب