أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٧
العلم يعلمون تأويل ما نصب لهم الدلالة عليه من المتشابه، قائلين: ربنا آمنا به، فصاروا معطوفين على ما قبله داخلين في حيزه، وقد وجد مثله في الشعر، قال يزيد بن مفرغ الحميري:
وشريت بردا ليتني * من بعد برد كنت هامه فالريح تبكي شجوه * والبرق يلمع في الغمامة والمعنى: والبرق يبكي شجوه لامعا في الغمامة. وإذا كان ذلك سائغا في اللغة وجب حمله على موافقة دلالة الآية في وجوب رد المتشابه إلى المحكم، فيعلم الراسخون في العلم تأويله إذا استدلوا بالمحكم على معناه. ومن جهة أخرى أن " الواو " لما كانت حقيقتها الجمع فالواجب حملها على حقيقتها ومقتضاها، ولا يجوز حملها على الابتداء إلا بدلالة، ولا دلالة معنا توجب صرفها عن الحقيقة، فوجب استعمالها على الجمع.
فإن قيل: إذا كان استعمال المحكم مقيدا بما في العقل، وقد يمكن كل مبطل أن يدعي ذلك لنفسه فيبطل فائدة الاحتجاج بالمحكم. قيل له: إنما هو مقيد بما هو في تعارف العقول، فيكون اللفظ مطابقا لما تعارفه العقلاء من أهل اللغة، ولا يحتاج في استعمال حكم العقل فيه إلى مقدمات بل يوقع العلم لسامعه بمعنى مراده على الوجه الذي هو ثابت في عقول العقلاء دون عادات فاسدة قد جروا عليها، فما كان كذلك فهو المحكم الذي لا يحتمل معناه إلا مقتضى لفظه وحقيقته، فأما العادات الفاسدة فلا اعتبار بها.
فإن قيل: كيف وجه اتباع من في قلبه زيغ ما تشابه منه دون ما أحكم؟ قيل له:
نحو ما روى الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت في وفد نجران لما حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا: أليس هو كلمة الله وروح منه؟ فقال: " بلى " فقالوا: حسبنا! فأنزل الله (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه)، ثم أنزل الله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) [آل عمران: 59] فصرفوا قوله:
" كلمة الله " إلى ما يقولونه في قدمه مع الله وروحه، صرفوه إلى أنه جزء منه قديم معه كروح الانسان، وإنما أراد الله تعالى بقوله: " كلمة " أنه بشر به في كتب الأنبياء المتقدمين، فسماه كلمة من حيث قدم البشارة به، وسماه روحه لأن الله تعالى خلقه من غير ذكر بل أمر جبريل عليه السلام فنفخ في جيب مريم عليها السلام، وأضافه إلى نفسه تعالى تشريفا له، كبيت الله وسماء الله وأرضه ونحو ذلك. وقيل إنه سماه روحا كما سمى القرآن روحا بقوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) [الشورى: 52]،
(٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 ... » »»