أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤
ثبوت الحكم فيشتبه على التالي حكمه في ثبوته ونسخه، فمن هذا الوجه جائز أن يسمى المنسوخ متشابها. وأما قول من قال: إن المحكم هو الذي لم تتكرر ألفاظه والمتشابه هو الذي تتكرر ألفاظه، فإن اشتباه هذا من جهة اشتباه وجه الحكمة فيه على السامع، وهذا سائغ عام في جميع ما يشتبه فيه وجه الحكمة فيه على السامع إلى أن يتبينه ويتضح له وجهه، فهذا مما يجوز فيه إطلاق اسم المتشابه. وما لا يشتبه فيه وجه الحكمة على السامع فهو المحكم الذي لا تشابه فيه على قول هذا القائل، فهذا أيضا أحد وجوه المحكم والمتشابه وإطلاق الاسم فيه سائغ جائز. وأما ما روي عن جابر بن عبد الله أن المحكم ما يعلم تعيين تأويله والمتشابه مالا يعلم تأويله، كقوله تعالى:
(يسألونك عن الساعة أيان مرساها) [الأعراف: 187] وما جرى مجرى ذلك، فإن إطلاق اسم المحكم والمتشابه سائغ فيه، لأن ما علم وقته ومعناه فلا تشابه فيه وقد أحكم بيانه، وما لا يعلم تأويله ومعناه ووقته فهو مشتبه على سامعه فجائز أن يسمى بهذا الاسم. فجميع هذه الوجوه يحتمله اللفظ على ما روي فيه، ولولا احتمال اللفظ لما ذكروا لما تأولوه عليه. وما ذكرناه من قول من قال إن المحكم هو مالا يحتمل إلا معنى واحدا والمتشابه ما يحتمل معنيين، فهو أحد الوجوه الذي ينتظمها هذا الاسم، لأن المحكم من هذا القسم سمي محكما لإحكام دلالته وإيضاح معناه وإبانته، والمتشابه منه سمي بذلك لأنه أشبه المحكم من وجه واحتمل معناه وأشبه غيره مما يخالف معناه معنى المحكم فسمي متشابها من هذا الوجه. فلما كان المحكم والمتشابه يعتورهما ما ذكرنا من المعاني احتجنا إلى معرفة المراد منها بقوله تعالى: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)، مع علمنا بما في مضمون هذه الآية وفحواها من وجوب رد المتشابه إلى المحكم وحمله على معناه دون حمله على ما يخالفه لقوله تعالى في صفة المحكمات:
(هن أم الكتاب والأم) هي التي منها ابتداؤه وإليها مرجعه، فسماها أما، فاقتضى ذلك بناء المتشابه عليها ورده إليها. ثم أكد ذلك بقوله: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) فوصف متبع المتشابه من غير حمله له على معنى المحكم بالزيغ في قلبه، وأعلمنا أنه مبتغ للفتنة، وهي الكفر والضلال في هذا الموضع كما قال تعالى: (والفتنة أشد من القتل) [البقرة: 191] يعني والله أعلم: الكفر، فأخبر أن متبع المتشابه وحامله على مخالفة المحكم في قلبه زيغ - يعني الميل عن الحق - يستدعي غيره بالمتشابه إلى الضلال والكفر، فثبت بذلك أن المراد بالمتشابه المذكور في هذه الآية هو اللفظ المحتمل للمعاني الذي يجب رده إلى المحكم وحمله على معناه. ثم نظرنا بعد ذلك في المعاني التي تعتور هذا اللفظ وتتعاقب عليه مما قدمنا ذكره في أقسام
(٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 ... » »»