المتشابه عن القائلين بها على اختلافها مع احتمال اللفظ، فوجدنا قول من قال بأنه الناسخ والمنسوخ، فإنه إن كان تاريخهما معلوما فلا اشتباه فيهما على من حصل له العلم بتأريخهما وعلم يقينا أن المنسوخ متروك الحكم وأن الناسخ ثابت الحكم، فليس فيهما ما يقع فيه اشتباه على السامع العالم بتاريخ الحكمين اللذين لا احتمال فيهما لغير النسخ.
وإن اشتبه على السامع من حيث إنه لم يعلم التاريخ، فهذا ليس أحد اللفظين أولى بكونه محكما من الآخر ولا بكونه متشابها منه، إذ كل واحد منهما يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا، فهذا لا مدخل له في قوله تعالى: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات). وأما قول من قال: " إن المحكم ما لم يتكرر لفظه والمتشابه ما تكرر لفظه " فهذا أيضا لا مدخل له في هذه الآية، لأنه لا يحتاج إلى رده إلى المحكم، وإنما يحتاج إلى تدبيره بعقله وحمله على ما في اللغة من تجويزه. وأما قول من قال: " إن المحكم ما علم وقته وتعيينه والمتشابه مالا يعلم تعيين تأويله، كأمر الساعة وصغائر الذنوب التي آيسنا الله من وقوع علمنا بها في الدنيا " وإن هذا الضرب أيضا منها خارج عن حكم هذه الآية لأننا لا نصل إلى علم معنى المتشابه برده إلى المحكم. فلم يبق من الوجوه التي ذكرنا من أقسام المحكم والمتشابه مما يجب بناء أحدهما على الآخر وحمله على معناه إلا الوجه الأخير الذي قلنا، وهو أن يكون المتشابه اللفظ المحتمل للمعاني، فيجب حمله على المحكم الذي لا احتمال فيه ولا اشتراك في لفظه من نظائر ما قدمنا في صدر الكتاب وبينا أنه ينقسم إلى وجهين من العقليات والسمعيات. وليس يمتنع أن تكون الوجوه التي ذكرناها عن السلف على اختلافها يتناولها الاسم على ما روي عنهم فيه لما بينا من وجوهها، ويكون الوجه الذي يجب حمله على المحكم هو هذا الوجه الأخير لامتناع إمكان حمل سائر وجوه المتشابه على المحكم على ما تقدم من بيانه، ثم يكون قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) معناه تأويل جميع المتشابه حتى لا يستوعب غيره علمها، فنفى إحاطة علمنا بجميع معاني المتشابهات من الآيات ولم ينف بذلك أن نعلم نحن بعضها بإقامته لنا الدلالة عليه كما قال تعالى: (ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء) [البقرة: 255] لأن في فحوى الآية ما قد دل على أنا نعلم بعض المتشابه برده إلى المحكم وحمله على معناه على ما بينا من ذلك، ويستحيل أن تدل الآية على وجوب رده إلى المحكم. وتدل أيضا على أنا لا نصل إلى علمه ومعرفته، فإذا ينبغي أن يكون قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) غير ناف لوقوع العلم ببعض المتشابه، فمما لا يجوز وقوع العلم لنا به وقت الساعة والذنوب الصغائر. ومن الناس من يجوز ورود لفظ مجمل في حكم يقتضي البيان ولا يبينه أبدا، فيكون في حيز المتشابه الذي لا نصل إلى العلم به.