أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٠١
عليهم والتعجب من جهلهم، وقد يقال على المجاز " قاتله الله " بمعنى أن عداوته لهم كعداوة المقاتل المستعلى عليهم بالاقتدار وعظم السلطان.
قوله تعالى: (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) هذا مجاز، لأن الانسان لا يملك نفسه ولا أخاه الحر على الحقيقة، وذلك لأن أصل الملك القدرة ومحال أن يقدر الانسان على نفسه أو على أخيه، ثم أطلق اسم الملك على التصرف فجعل المملوك في حكم المقدور عليه، إذ كان له أن يصرفه تصرف المقدور عليه، وإنما معناه ههنا أنه يملك تصريف نفسه في طاعة الله، وأطلقه على أخيه أيضا إذ كان يتصرف بأمره وينتهي إلى قوله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أحد أمن علي بنفسه وذات يده من أبي بكر " فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله! يعني أني متصرف حيث صرفتني وأمرك جائز في مالي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: " أنت ومالك لأبيك " ولم يرد به حقيقة الملك.
قوله تعالى: (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) قال أكثر أهل العلم: " هو تحريم منع لأنهم كانوا يصبحون بحيث أمسوا ومقدار الموضع ستة فراسخ ".
وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يكون تحريم التعبد، لأن التحريم أصله المنع قال الله تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل) [القصص: 12] يعني به المنع، قال الشاعر يصف فرسا:
حالت لتصرعني فقلت لها اقصري * إني امرؤ صرعي عليك حرام يعني: إني فارس لا يمكنك صرعي. فهذا هو أصل التحريم، ثم أجرى تحريم التعبد عليه لأن الله تعالى قد منعه بذلك حكما وصار المحرم بمنزلة الممنوع، إذ كان من حكم الله فيه أن لا يقع كما لا يقع الممنوع منه، وقوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم) [المائدة: 3] ونحوهما تحريم حكم وتعبد لا تحريم منع في الحقيقة. ويستحيل اجتماع تحريم المنع وتحريم التعبد في شئ واحد، لأن الممنوع لا يجوز حظره ولا إباحته إذ هو غير مقدور عليه، والحظر والإباحة يتعلق بأفعالنا، ولا يكون فعل لنا إلا وقد كان قبل وقوعه منا مقدورا لنا.
قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا). قال ابن عباس وعبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة: " كان ابني آدم لصلبه هابيل وقابيل، وكان هابيل مؤمنا وقابيل كافرا "، وقيل بل كان رجل سوء. وقال الحسن: هما من بني إسرائيل، لأن علامة تقبل القربان لم يكن قبل ذلك ". والقربان ما يقصد به القرب من رحمة الله تعالى من أعمال البر، وهو " فعلان " من القرب كالفرقان من الفرق، والعدوان من العدو، والكفران
(٥٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 496 497 498 499 500 501 502 503 504 505 506 ... » »»