أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٠٦
دلالة في قوله: (فأصبح من الخاسرين) على أن القتل كان ليلا، وإنما المراد به وقت مبهم جائز أن يكون ليلا وجائز أن يكون نهارا، وهو كقول الشاعر:
أصبحت عاذلتي معتلة وليس المراد النهار دون الليل، وكقول الآخر:
بكرت علي عواذلي * يلحينني وألومهنه ولم يرد بذلك أول النهار دون آخره. وهذا عادة العرب في إطلاق مثله والمراد به الوقت المبهم.
باب دفن الموتى قال الله تعالى: (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه).
قال ابن عباس وابن ومسعود ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك: " لم يدر كيف يصنع به حتى رأى غرابا جاء يدفن غرابا ميتا "، وفي هذا دليل على فساد ما روي عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل، لأنه لو كان كذلك لكان قد عرف الدفن بجريان العادة فيه قبل ذلك، وهو الأصل في سنة دفن الموتى، وقال تعالى: (ثم أماته فأقبره) [عبس: 21] وقال تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا) [المرسلات: 26]. وقيل في معنى: (سوأة أخيه) وجهان، أحدهما: جيفة أخيه، لأنه لو تركه حتى ينتن لقيل لجيفته سوأة. والثاني: عورة أخيه، وجائز أن يريد الأمرين جميعا لاحتمالهما. وأصل السوأة التكره، ومنه: ساءه يسوءه سوءا، إذا أتاه بما يتكرهه. وقص الله علينا قصته لنعتبر بها ونتجنب قبح ما فعله القاتل منهما. وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا شرهما ".
وقال الله تعالى: (فأصبح من النادمين) قيل إنه ندم على القتل على غير جهة القربة إلى الله تعالى منه وخوف عقابه، وإنما كان ندمه من حيث لم ينتفع بما فعل وناله ضرر بسببه من قبل أبيه وأمه، ولو ندم على الوجه المأمور به لقبل الله توبته وغفر ذنبه.
قوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل) الآية. فيه إبانة عن المعنى الذي من أجله كتب على بني إسرائيل ما ذكر في الآية، وهو لئلا يقتل بعضهم بعضا، فدل ذلك على أن النصوص قد ترد مضمنة بمعان يجب اعتبارها في أغيارها في إثبات الأحكام. وفيه دليل على إثبات القياس ووجوب اعتبار المعاني التي علق بها الأحكام وجعلت عللا وأعلاما لها.
وقوله تعالى: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض) يدل على أن من قتل
(٥٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 501 502 503 504 505 506 507 508 509 510 511 ... » »»