أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ١٣٩
لأنه لا خلاف أن ذلك مراد إذا طلق قبل الخلوة. وقد اختلف في الخلوة هل هي المسيس المراد بالآية أو المسيس الجماع؟ واللفظ محتمل للأمرين، لأن عليا وعمر وغيرهما من الصحابة قد تأولوه عليها، وتأوله عبد الله بن مسعود على الجماع، فلا يخص عموم قوله تعالى: (فلا تأخذوا منه شيئا) بالاحتمال.
مطلب: فيما تضمنه قوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطارا) من الاحكام وقوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) يدل على أن من وهب لامرأته هبة لا يجوز له الرجوع فيها لأنها مما آتاها، وعموم اللفظ قد حظر أخذ شئ مما آتاها من غير فرق بين المهر وغيره. ويحتج فيمن خلع امرأته على مال وقد أعطاها صداقها أنه لا يرجع عليها بشئ من الصداق الذي أعطاها عينا كان أو عرضا على ما قاله أبو حنيفة في ذلك. ويحتج به فيمن أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل المدة أنه لا يرجع في ميراثها بشئ مما أعطاها لعموم اللفظ، لأنه جائز أن يريد أن يتزوج بأخرى بعد موتها مستبدلا بها مكان الأولى، فظاهر اللفظ قد تناول هذه الحال.
فإن قيل: لما عقب ذلك قوله تعالى: (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) دل على أن المراد بأول الخطاب فيما أعطاها هو المهر دون غيره، إذ كان هذا المعنى إنما يختص بالمهر دون ما سواه. قيل له: ليس يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في جميع ما انتظمه الاسم، ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأول، وقد بينا نظائر ذلك في مواضع. وهذه الآية أيضا تدل على أنه إذا دخل بها ثم وقعت الفرقة من قبلها بمعصية أو غير معصية أن مهرها واجب لا يبطله وقوع الفرقة من قبلها. وفائدة تخصيص الله تعالى حال الاستبدال بالنهي عن أخذ شئ مما أعطاها مع شمول الحظر لسائر الأحوال إزالة توهم من يظن أن ذلك جائز عند حصول البضع لها وسقوط حق الزوج عنه بطلاقها وأن الثانية قد قامت مقام الأولى فتكون أولى بالمهر الذي أعطاها، فنص على حظر الأخذ في هذه الحال، ودل به على عمومه في سائر الأحوال إذا لم يبح له أخذ شئ مما أعطاها في الحال التي يسقط حقه عن بضعها، فهو أولى أن لا يأخذ منها شيئا مع بقاء حقه في استباحة بضعها وكونه أملك بها من نفسها. وأكد الله تعالى حظر أخذ شئ مما أعطى بأن جعله ظلما كالبهتان، وهو الكذب الذي يباهت به مخبره ويكابر به من يخاطبه، وهذا أقبح ما يكون من الكذب وأفحشه، فشبه أخذ ما أعطاها بغير حق بالبهتان في قبحه فسماه بهتانا وإثما.
قوله عز وجل: (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا).
(١٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 134 135 136 137 138 139 140 141 142 143 144 ... » »»