تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١٩ - الصفحة ٢٥٢
فقوله: " مصدقا لما بين يدي من التوراة " بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة ولا تناقض شريعتها بل تصدقها ولم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا والنسخ بيان انتهاء أمد الحكم وليس بإبطال، ولذا جمع عليه السلام بين تصديق التوراة ونسخ بعض أحكامها فيما حكاه الله تعالى من قوله: " ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " آل عمران: 50، ولم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله المحكي: " قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون " الزخرف: 63.
وقوله: " ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " إشارة إلى الشطر الثاني من رسالته عليه السلام وقد أشار إلى الشطر الأول بقوله: " مصدقا لما بين يدي من التوراة ".
ومن المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر ويفرحه ولا يكون إلا بشئ من الخير يوافيه ويعود إليه، والخير المترقب من بعثة النبي ودعوته هو انفتاح باب من الرحمة الإلهية على الناس فيه سعادة دنياهم وعقباهم من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما، والبشرى بالنبي بعد النبي وبالدعوة الجديدة بعد حلول دعوة سابقة واستقرارها والدعوة الإلهية واحدة لا تبطل بمرور الدهور وتقضي الأزمنة واختلاف الأيام والليالي - إنما تتصور إذا كانت الدعوة الجديدة أرقي فيما تشتمل عليه من العقائد الحقة والشرائع المعدلة لأعمال المجتمع وأشمل لسعادة الانسان في دنياه وعقباه.
وبهذا البيان يظهر أن معنى قوله عليه السلام: " ومبشرا برسول يأتي من بعدي " الخ، يفيد كون ما أتى به النبي أحمد صلى الله عليه وآله وسلم أرقي وأكمل مما تضمنته التوراة وبعث به عيسى عليه السلام وهو عليه السلام متوسط رابط بين الدعوتين.
ويعود معنى كلامه: " إني رسول الله إليكم مصدقا " الخ، إلى أني رسول من الله إليكم أدعو إلى شريعة التوراة ومنهاجها - ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم - وهي شريعة سيكملها الله ببعث نبي يأتي من بعدي اسمه أحمد.
وهو كذلك فإمعان التأمل في المعارف الإلهية التي يدعو إليها الاسلام يعطي أنها أدق مما في غيره من الشرائع السماوية السابقة وخاصة ما يندب إليه من التوحيد الذي هو أصل الأصول الذي يبتني عليه كل حكم ويعود إليه كل من المعارف الحقيقية وقد تقدم شطر من الكلام فيه في المباحث السابقة من الكتاب.
وكذا الشرائع والقوانين العملية التي لم تدع شيئا مما دق وجل من أعمال الانسان
(٢٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 247 248 249 250 251 252 253 254 255 256 257 ... » »»
الفهرست