الإنصاف فيما تضمنه الكشاف - ابن المنير الإسكندري - ج ١ - الصفحة ٤٩٥
قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) قال محمود (معناه: ولا تضموها إلى أموالكم الخ) قال أحمد وأهل البيان يقولون المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيها على الاعلى كقوله تعالى - فلا تقل لهما أف - وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفا لها، إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهي أن يأكله وهو غني عنه، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغني عنه من طريق الأولى، وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية فنقول: أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته، ولا شك أن النهي عن الأدنى وإن أفاد النهي عن الاعلى، إلا أن للنهي عن الاعلى أيضا فائدة أخرى جليلة لا تؤخذ من النهي عن الأدنى، وذلك أن المنهي كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد، ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الاكل، فخصص بالنهي تشنيعا على من يقع فيه حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الاحجام عن أكل ماله مطلقا، ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر، إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب كإعانتها عليه في الصورة الأولى، ويحقق مراعاة هذه المعنى تخصيصه الاكل مع أن تناول مال اليتيم على أي وجه كان منهي عنه كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح مثلا أو غير ذلك، إلا أن حكمة تخصيص النهي بالاكل أن العرب كانت تتذمم بالاكثار من الاكل، وتعد البطنة من البهيمية وتعيب على من اتخذها ديدنه ولا كذلك سائر الملاذ، فإنهم ربما يتفاخرون بالاكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا، فلما كان الاكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها أكلا أو غيره، ومثل هذه الآية في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى - لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة - فخص هذه الصورة لان الطبع على الانتهاء عنها أعون، ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الامر، وهو أنه تارة يخص سورة الامر الأدنى تنبيها على الاعلى، وتارة يخص سورة الاعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب، إلا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة - وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم - الآية، كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم، وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال، فلو أمر بإسعاف
(٤٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 482 485 492 493 494 495 496 497 498 499 500 ... » »»