الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٤٥٧
ما منا من شهيد * وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص * لا يسأم الانسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤس قنوط * ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ * وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض
____________________
(ما منا من شهيد) أي مامنا أحد اليوم وقد أبصرنا وسمعنا يشهد بأنهم شركاؤك: أي مامنا إلا من هو موحد لك، أو مامنا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم لا يبصرونها في ساعة التوبيخ، وقيل هو كلام الشركاء:
أي مامنا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة، ومعنى ضلالهم عنهم على هذا التفسير: أنهم لا ينفعونهم فكأنهم ضلوا عنهم (وظنوا) وأيقنوا. والمحيص: المهرب. فإن قلت: آذناك إخبار بإيذان كان منهم فإذ قد آذنوا فلم سئلوا؟ قلت: يجوز أن يعاد عليهم أين شركائي إعادة للتوبيخ، وإعادته في القرآن على سبيل الحكاية دليل على إعادة المحكي. ويجوز أن يكون المعنى: أنك علمت من قلوبنا وعقائدنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة، لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه، ويجوز أن يكون إنشاء للإيذان ولا يكون إخبارا بإيذان قد كان كما تقول أعلم الملك أنه كان من الأمر كيت وكيت (من دعاء الخير) من طلب السعة في المال والنعمة. وقرأ ابن مسعود من دعاء بالخير (وإن مسه الشر) أي الضيقة والفقر (فيئوس قنوط) بولغ فيه من طريقين: من طريق بناء فعول ومن طريق التكرير. والقنوط: أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر: أي يقطع الرجاء من فضل الله وروحه، وهذه صفة الكافر بدليل قوله تعالى - إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون - وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق قال (هذا لي) أي هذا حقي وصل إلى لأنى استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال بر، أو هذا لي لا يزول عنى، ونحوه قوله تعالى - فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه - ونحو قوله تعالى (وما أظن الساعة قائمة) - إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين - يريد وما أظنها تكون، فإن كانت على طريق التوهم (إن لي) عند الله الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة قائسا أمر الآخرة على أمر الدنيا، وعن بعضهم للكافر أمنيتان يقول في الدنيا - ولئن رجعت إلى ربى إن لي عنده للحسنى - ويقول في الآخرة - يا ليتني كنت ترابا - وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة. فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب، ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها أنهم يستوجبون عليه كرامة وقربة عند الله - وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا - وذلك أنهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلبا للافتخار والاستكبار لاغير وكانوا يحسبون أن ما هم عليه سبب الغنى والصحة وأنهم محقوقون بذلك. هذا أيضا ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة وكأنه لم يلق بؤسا قط فنسى المنعم وأعرض عن شكره (ونأى بجانبه) أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم. وإن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع، وقد أستعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الإجرام، ويستعار له الطول أيضا كما أستعير الغلظ لشدة العذاب، وقرئ ونأى بجانبه بإمالة الألف وكسر النون
(٤٥٧)
مفاتيح البحث: الشهادة (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 452 453 454 455 456 457 458 459 460 461 462 ... » »»