وكان دفن بالحبش مكان بينه وبين مكة اثنا عشر ميلا أو نحوها قال أبو عمر قد أجمع المسلمون كافة بعد كافة على جواز نقل موتاهم من دورهم إلى قبورهم فمن ذلك البقيع مقبرة المدينة ولكل مدينة جبانة يتدافن فيها أهلها فدل ما ذكرناه من الإجماع على فساد نقل من نقل تدفن الأجساد حيث تقبض الأرواح إلا أن يكون أراد البلد والحضرة وما لا يكون سفرا والله أعلم وليس في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد القتلى يوم أحد إلى مضاجعهم ما يرد ما وصفنا والحديث المأثور ما دفن نبي إلا حيث قبض دليل ووجه على تخصيص الأنبياء بذلك والله أعلم وأما حديث عائشة في أخيها بذلك والله أعلم لأنها أرادت دفنه بمكة لزيارة الناس القبور بالسلام عليهم والدعاء لهم وقد نقل سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد من العقيق ونحوه إلى المدينة وذلك بمحضر جماعة من الصحابة وكبار التابعين من غير نكير ولعلهما قد أوصيا بذلك وما أظن إلا وقد رويت ذلك والله أعلم وليس في هذا الباب - أعني نقل الموتى - بدعة ولا سنة فليفعل المؤمن ذلك ما شاء وبالله التوفيق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال ما أحب أن أدفن بالبقيع لأن أدفن بغيره أحب إلي من أن أدفن فيه إنما هو أحد رجلين إما ظالم فلا أحب أن أدفن معه وإما صالح فلا أحب أن تنبش لي عظامه وقد بين عروة (رحمه الله) وجه كراهته الدفن بالبقيع وظاهر خبره هذا أنه لم يكره نبش عظام الظالم وليس المعنى كذلك لأن عظم المؤمن يكره من كسره ميتا ما يكره منه وهو حي وفي خبر عروة هذا دليل على أن الناس بظلمهم يعذبون في قبورهم والله أعلم ولذلك استحبوا الجار الصالح في المحيا والممات وعروة رحمه الله ابتنى قصره بالعقيق وخرج من المدينة لما رأى من تغير أحوال أهلها ومات هناك (رحمه الله) وخبره هذا عجيب قد ذكرناه من طرق في آخر كتاب جامع بيان العلم وفضله
(٥٨)