عمدة القاري - العيني - ج ١٨ - الصفحة ١١٧
في (الجمع بين الصحيحين) يأتيها في الفرج، وبهذا قد تبين أن مجرور كما نفي هو الفرج، وقال بعضهم: هو من عنده بحسب فهمه وليس مطابقا لما في نفس الأمر، وأيد كلامه بقوله: وقد قال أبو بكر بن العربي أورد البخاري هذا الحديث في (التفسير) فقال: يأتيها في وترك بياضا. انتهى قلت: لا نسلم عدم المطابقة لما في نفس الأمر لأن ما في نفس الأمر عند من لا يرى إباحة إتيان النساء في أدبارهن أن يقدر بعد كلمة في إما لفظ في الفرج، أو في القبل أو في موضع الحرث، والظاهر من حال البخاري أنه لا يرى إباحة ذلك، ولكن لما ورد في حديث أبي سعيد الخدري ما يفهم منه إباحة ذلك، ووردت أحاديث كثيرة في منع ذلك تأمل في ذلك ولم يترجح عنده في ذلك الوقت أحد الأمرين فترك بياضا بعد في، ليكتب فيه ما يترجح عنده من ذلك. والظاهر أنه لم يدركه فبقي البياض بعده مستمرا فجاء الحميدي وقدر ذلك حيث قال: يأتيها في الفرج نظرا إلى حال البخاري أنه لا يرى خلافه. ولو كان الحميدي علم من حال البخاري أنه يبيح الإتيان في إدبار النساء لم يقدر هذا بل كان يقدر يأتيها في أي موضع شاء، كما صرح في رواية ابن جرير في نفس حديث عبد الصمد يأتيها في دبرها ثم قال: هذا القائل: هذا الذي استعمله البخاري نوع من أنواع البديع يسمى الاكتفاء ولا بد له من نكتة يحسن سببها استعماله. قلت: ليت شعري من قال من أهل صناعة البديع أن حذف المجرور وذكر الجار وحده من أنواع البديع، والاكتفاء إنما يكون في شيئين متضادين يذكر أحدها ويكتفي به عن الآخر كما في قوله تعالى: * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 81) والتقدير: والبرد أيضا، ولم يبين أيضا ما هو المحسن لذلك على أن جمهور النحاة لا يجوزون حذف المجرور إلا أن بعضهم قد جوز ذلك في ضرورة الشعر. وقد عاب الإسماعيلي على صنيع البخاري ذلك، فقال: جميع ما أخرج عن ابن عمر مبهم لا فائدة فيه، وقد رويناه عن عبد العزيز، يعني: الدراوردي عن مالك، وعبيد الله بن عمر، وابن أبي ذئب ثلاثتهم عن نافع بالتفسير، ورواية الدراوردي المذكورة قد أخرجها الدارقطني في (غرائب مالك) من طريقه عن الثلاثة عن نافع نحو رواية ابن عون عنه، ولفظ: نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك، قال: فقلت له من دبرها في قبلها؟ قال لا إلا في دبرها.
وأما اختلاف العلماء في هذا الباب فذهب محمد بن كعب القرظي وسعيد بن يسار المدني ومالك إلى إباحة ذلك، واحتجوا في ذلك بما رواه أبو سعيد، أن رجلا أصاب امرأته في دبرها فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا: اثغرها؟ فأنزل الله عز وجل * (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) * (البقرة: 223) وقالوا: معنى الآية. حيث شئتم من القبل والدبر، وقال عياض: تعلق من قال: بالتحليل بظاهر الآية وقال ابن العربي في كتابه (أحكام القرآن) جوزته طائفة كثيرة، وقد جمع ذلك ابن شعبان في كتابه (جماع النسوان) وأسند جوازه إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة، وقال أبو بكر الجصاص في كتابه (أحكام القرآن) المشهور عن مالك إباحة ذلك وأصحابه ينفون عنه هذه المقالة لقبحها وشناعتها وهي عنه أشهر من أن تدفع بنفيهم عنه وقد روى محمد بن سعد عن أبي سليمان الجوزجاني، قال: كنت عند مالك بن أنس، فسئل عن النكاح في الدبر، فضرب بيده على رأسه، وقال: الساعة اغتسلت منه ورواه عنه ابن القاسم: ما أدركت أحدا اقتدى به في ديني يشك فيه أنه حلال، يعني: وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ: * (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) * قال: فأي شيء أبين من هذا، وما أشك فيه وأما مذهب الشافعي فيه فما قاله الطحاوي: حكى لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تحريمه ولا في تحليله والقياس أنه حلال. وقال الحاكم: لعل الشافعي كان يقول ذلك في القديم، وأما في الجديد فصرح بالتحريم.
وذهب الجمهور إلى تحريمه فمن الصحابة علي بن أبي طالب ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو الدرداء وخزيمة بن ثابت وأبو هريرة وعلي بن طلق وأم سلمة وقد اختلف عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والأصح عنه المنع، ومن التابعين سعيد بن المسيب ومجاهد وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء بن أبي رباح، ومن الأئمة سفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي في الصحيح، وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وآخرون كثيرون، واحتجوا في ذلك بأحاديث كثيرة منها: حديث ابن خزيمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن، أخرجه الطحاوي والطبراني وإسناده صحيح ومنها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هي اللوطية
(١١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 ... » »»