عمدة القاري - العيني - ج ١٧ - الصفحة ٢٧
ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزمة لتنقيص أجره، لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه في العدد دون من اتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة. قوله: (لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من يدخلها من أمتي). قوله: (غلاما) ليس للتحقير والاستصغار به، بل إنما هو لتعظيم منة الله على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من غير طول العمر، ويقال: بل قال ذلك على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه إذا أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله ممن هو أسن منه.
وفي هذا الموضع عبارات وقعت في أحاديث، ففي رواية شريك عن أنس: لم أظن أحدا يرفع علي، وفي حديث أبي سعيد، قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم على الله وهذا أكرم على الله مني، زاد الأموي في روايته: ولو كان هذا وحده هان علي ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله، وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أنه مر بموسى، عليه الصلاة والسلام، يرفع صوته فيقول: أكرمته وفضلته؟ فقال جبريل، عليه الصلاة والسلام: هذا موسى قلت: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك. قلت: ويرفع صوته على ربه؟ قال: إن الله قد عرف له حدته. وفي حديث ابن مسعود عند الحارث وأبي يعلى والبزار: سمعت صوتا وتذمرا، فسألت جبريل، عليه السلام، فقال: هذا موسى. قلت: على من تذمره؟ قال: على ربه. قلت: على ربه؟ قال: إنه يعرف ذلك منه. فإن قلت: ما وجه قوله: لما أتى السماء السادسة فإذا موسى؟ وقد قال في حديث آخر: رأيت موسى ليلة الإسراء وهو يصلي في قبره؟ قلت: لا إشكال في ذلك على قول من يقول بتعدد الإسراء، وعلى قول من يقول: بأن الإسراء مرة واحدة، فالجواب: أن موسى، عليه الصلاة والسلام، صعد إلى السماء السادسة بعد أن رآه النبي صلى الله عليه وسلم، في قبره حتى اجتمع به هناك، وما ذلك على الله بعزيز. ولا على موسى بكثير.
قوله: (فإذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام) وهو في السماء السابعة على رواية البخاري، وعلى رواية مسلم: في السماء السادسة، في رواية الزهري عن أنس حيث قال: وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة، وكذا في رواية البخاري في أول كتاب الصلاة: في السماء السادسة. وأجيب: بأنه لا منافاة لاحتمال أن يكون في السادسة وصعد قبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى السابعة، وقيل: يحتمل أنه جاء إلى السماء السادسة استقبالا وهو في السابعة على سبيل التوطن، وعلى تعدد الإسراء لا إشكال. فإن قلت: ما الحكمة في الاقتصار على هؤلاء الأنبياء المذكورين فيه دون غيرهم منهم؟ قلت: للإشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم، مع قومه مع نظير ما وقع لكل منهم، ففي آدم ما وقع له من الخروج من الجنة، فكذلك في النبي صلى الله عليه وسلم، وقع له من الخروج من مكة. وفي عيسى ويحيى على ما وقع له أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم في البغي عليه، وفي يوسف على ما وقع له مع إخوته، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ما وقع له من قريش في نصبهم الحرب له، وفي إدريس على رفيع منزلته عند الله فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هارون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأكثر قومه رجعوا إليه بعد العداوة، وفي موسى على ما وقع له من معالجة قومه فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، عالج قريشا وغيرهم أشد المعالجة، وفي إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، في استناده إلى البيت المعمور بما ختم الله له في آخر عمره من إقامة مناسك الحج وتعظيم البيت فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أقام مناسك الحج وعظم البيت وأمر بتعظيمه، وقيل: الحكمة فيه أن الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، أمروا بملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فمنهم من أدركه في أول الوهلة، ومنهم من تأخر فلحق، ومنهم من فاته. فإن قلت: ما الحكمة في كون كل منهم في مكانه المذكور فيه؟ قلت: أما آدم فإنه أول الأنبياء وأول الآباء وهو الأصل فكان أولا في السماء الأولى، وأما عيسى، عليه السلام، فإنه أقرب الأنبياء عهدا من نبينا صلى الله عليه وسلم، ويليه يوسف، عليه السلام، لأن أمة محمد تدخل الجنة على صورته، وأما إدريس فلقوله تعالى: * (ورفعناه مكانا عليا) * (مريم: 57). والسماء الرابعة من السبع وسط معتدل. وأما هارون فلقربه من أخيه موسى، وموسى أرفع منه لفضل كلام الله، وأما إبراهيم فلأنه الأب الأخير، فناسب أن يتجدد للنبي صلى الله عليه وسلم يلقيه أنس لتوجهه بعده إلى عالم آخر. والله أعلم. قوله: (ثم رفعت إلى سدرة المنتهى)، الرفع تقريبك الشيء، وقد قيل في قوله تعالى: * (وفرش مرفوعة) * (الواقعة: 34). أي:
(٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 ... » »»