عمدة القاري - العيني - ج ١٦ - الصفحة ٦٢
حضره الموت لما أيس من الحياة أوصى أهله إذا مت فاجمعوا لي حطبا كثيرا ثم أوروا نارا حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فخذوها فاطحنوها فذروني في اليم في يوم حار أو راح فجمعه الله فقال لم فعلت قال خشيتك فغفر له قال عقبة وأنا سمعته يقول. (انظر الحديث 2543 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (أن رجلا حضره الموت) وهذا الحديث مضى في أول: باب ما ذكر عن بن إسرائيل، بأتم منه، فإنه أخرجه هناك: عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة عن عبد الله بن عمير عن ربعي بن حراش... إلى آخره، وهنا أخرجه: عن مسدد عن أبي عوانة الوضاح، وهذا هكذا رواية الكشميهني، وأبو ذر صوب رواية الأكثرين، وهي: عن موسى بن إسماعيل التبوذكي، وذكر أبو نعيم في (المستخرج): أنه عن موسى ومسدد جميعا لأنهما قد سمعا من أبي عوانة، وقد ذكرنا هناك ما تيسر لنا من لطف الله وفضله، فلنذكر هنا ما يجلب من الفوائد أحسنها وأخصرها.
فقوله: (قال عقبة) هو عقبة بن عمرو أبو مسعود البدري، لا عقبة بن عبد الغافر المذكور آنفا. ولا يلتبس عليك. قوله: (ألا تحدثنا)، كلمة: ألا، هنا للعرض والتحضيض، ومعناهما طلب الشيء، ولكن العرض طلب بلين والتحضيض طلب بحث وإلا هذه تختيص بالفعلية. قوله: (قال سمعته) أي: قال عقبة: سمعت حذيفة، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (أوصى إلى أهله) ويروى (أوصى أهله) قوله: (صم أوروا) أمر للجمع بفتح الهمزة من أورى يوري إيراء، يقال: ورى الزند يري: إذا خرجت ناره، وأوراه غيره إذا استخرج ناره. قوله: (وإذا خلصت) بفتح اللام أي: وصلت. قوله: (فذروني)، بضم الذال وتشديد الراء من: ذروت الشيء أذروه ذروا: إذا فرقته. قوله: (في اليم)، أي: في البحر. قوله: (في يوم حار أو راح) هذا على الشك في رواية النسفي، وعند أبي الهيثم: حار فقط بالراء أي: شديد الحر. قال الجوهري: حر النهار فيه لغتان تقول: حررت يا يوم بالفتح وحررت بالكسر وأحر النهار لغة فيه سمعها الكسائي. قوله: (أو راح)، أي: ذي ريح شديدة، وفي رواية المروزي: حاز، بحاء مهملة وزاي مشددة ومعناه: يحز ببرده أو حره، وكذا قيده الأصيلي وأبو ذر، وفي رواية القابسي: في يوم حان، بالنون، واقتصر ابن التين على هذه الرواية، ثم نقل عن ابن فارس: الحون ريح يحن كحنين الإبل، قال: فعلى هذا يقرأ: في يوم حان بتشديد النون، يريد حان ريحه. وفي (التوضيح): وتبعه بعض شيوخنا فاقتصر عليه في شرحه وأهمل الباقي. قوله: (فجمعه الله) أي: جمع جسده لأن التحريق والتفريق إنما وقع عليه وهو الذي يجمع ويعاد عند البعث، وفي حديث سلمان الفارسي عند أبي عوانة في (صحيحه): فقال الله: كن، فكان كأسرع من طرف العين. قوله: (فقال: لم فعلت) أي: فقال الله تعالى لذلك الرجل: لم فعلت هذا؟ (قال: من خشيتك)، أي: من أجل خشيتي منك. قوله: (فغفر له) فإن قلت: إن كان هذا الرجل مؤمنا فلم شك في قدرة الله تعالى؟ حيث قال: فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا، على ما يأتي عن قريب في حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، وإن لم يكن، فكيف غفر له؟ قلت: كان مؤمنا بدليل الخشية، ومعنى: قدر، مخففا ومشددا: حكم وقضى، أو ضيق. وقال النووي: قيل: أيضا: إنه على ظاهره، ولكن قاله غير ضابط لنفسه وقاصد لمعناه، بل قاله في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف بحيث ذهب تدبره فيما يقوله، فصار كالغافل والناسي لا يؤاخذ عليهما، أو أنه كان في زمان ينفعه مجرد التوحيد، أو كان في شرعهم جواز العفو عن الكافر. وقال الخطابي: فإن قلت: كيف يغفر له وهو منكر للقدرة على الإحياء؟ قلت: ليس بمنكر، إنما هو رجل جاهل ظن أنه إذا صنع به هذا الصنيع ترك فلم ينشر ولم يعذب، وحيث قال: من خشيتك، علم أنه أنه رجل مؤمن فعل ما فعل من خشية الله، ولجهله حسب أن هذه الحيلة تنجيه. قوله: (وقال عقبة)، أي: عقبة بن عمرو أبو مسعود البدري: (وأنا سمعته يقول) أي: النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة حدثنا عبد الملك وقال في يوم راح أشار بهذا إلى أن موسى بن إسماعيل التبوذكي خالف مسددا في لفظه من الحديث المذكور، وهي قوله: في يوم راح، لأن في رواية مسدد: في يوم حار، على ما مر عن قريب.
(٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 ... » »»