ليأخذها غصبا وجب على المودع عنده أن يكذب بمثل: أنه لا يعلم موضعها، بل يحلف عليه. قوله: (ثنتين منهن)، أي: كذبتين من هذه الكذبات الثلاث كانتا في ذات الله تعالى، أي: لأجله، وإنما خص هاتين الثنتين لأنهما في ذات الله لأن قصة سارة وإن كانت أيضا في ذات الله، لأنها سبب لدفع كافر ظالم عن مواقعة فاحشة عظيمة، لكنها تضمنت حظا لنفسه ونفعا له بخلاف الثنتين المذكورتين، لأنهما كانتا في ذات الله محضا، وقد وقع في رواية هشام بن حسان: أن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات، كل ذلك في ذات الله تعالى، وعند أحمد من حديث ابن عباس: والله إن جادل بهن إلا عن الله. قوله: (بينا هو)، أي: إبراهيم وسارة معه. قوله: إذ أتى، جواب: بينا إذ أتى إبراهيم. قوله: على جبار، يعني: مر على جبار من الجبابرة، وفي رواية مسلم: وواحدة في شأن سارة، أي: خصلة واحدة من الثلاث المذكورة، فإنه قدم أرض جبار ومعه ارة، وكانت أحسن الناس، واسم هذا الجبار: عمرو بن امرئ القيس بن سبأ، وكان على مصر، ذكره السهيلي، وهو قول ابن هشام في (التيجان) وقيل: اسمه صادوف، بالفاء حكاه ابن قتيبة، وأنه كان على الأردن، وقيل: سفيان بن علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح صلى الله عليه وسلم، حكاه الطبري ويقال: إنه أخو الضحاك الذي ملك الأقاليم، وقيل: إنه ملك حران. وقال علماء السير: أقام إبراهيم بالشام مدة فقحط الشام، فسار إلى مصر ومعه سارة. وكان بها فرعون، وهو أول الفراعنة، عاش دهرا طويلا، فأتى إليه رجل، وقال: إنه قدم رجل ومعه امرأة من أحسن الناس، وجرى له معه ما ذكره في الحديث. قوله: (فأرسل إليه)، أي: أرسل هذا الجبار إلى إبراهيم. قوله: (فقال من هذه؟) أي: فقال الجبار: من هذه المرأة؟ قال: أختي، وفي رواية مسلم: فأرسل إليها فأتى بها، فهذا يدل على أنه أتى بها حين أرسل إليه الجبار، ورواية البخاري تدل على أنه أرسل إليه أولا وسأل عنها، ثم أتى إبراهيم إليها، وقال لها ما ذكره في الحديث، ثم أرسلها إليه. قوله: (فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك)، قيل: يشكل عليه كون لو معه وأجاب بعضهم بأن مراده بالأرض: الأرض التي وقع له بها ما وقع، ولم يكن لوط معه، إذ ذاك. فإن قلت: ذكر أهل السير أن إبراهيم سار إلى مصر ومعه سارة ولوط. قلت: يمكن أنه سار معه إلى مصر ولم يدخلها معه، فأتى الجواب المذكور كما ذكره، والله أعلم. قوله: (فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني)، وكانت عادة هذا الجبار أن لا يتعرض إلا إلى ذوات الأزواج، فلذلك قال لها: إني أخبرته أنك أختي. وقيل: لو قال: إنها امرأتي لألزمه بالطلاق. قوله: (فلما دخلت عليه) أي: فلما دخلت سارة على الجبار. قوله: (فأخذ) على صيغة المجهول أي: اختنق حتى ركض برجله كأنه مصروع، وفي رواية مسلم: فأرسل إليها فأتي بها قام إبراهيم يصلي فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يديه إليها فقبضت يده قبضة شديدة، وعند أهل السير: فلما دخلت عليه ورآها أهوى إليها فتناولها بيده فيبست إلى صدره. قوله: (الثانية)، ويروى: ثانية، بدون الألف واللام، وعند أهل السير: فعل ذلك ثلاث مرات. قوله: (فدعت)، وكان دعاؤها: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر. قوله: (فدعا بعض حجبته)، بفتح الجيم والباء الموحدة جمع حاجب، وفي رواية مسلم: (ودعا الذي جاء بها). قوله: (إنكم لم تأتوني بإنسان إنما أتيتموني بشيطان)، وفي رواية الأعرج: (ما أرسلتم إلي إلا شيطانا، أرجعوها إلى إبراهيم). وفي رواية مسلم: (فقال: إنما جئتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر). والمراد من الشيطان: المتمرد من الجن، وكانوا قبل الإسلام يعظمون أمر الجن جدا، ويرون كل ما يقع من الخوارق من فعلهم وتصرفهم. قوله: (فأخدمها هاجر) أي: وهب لها خادما اسمها هاجر، ويقال: آجر، بالهمز بدل الهاء، وهي أم إسماعيل، عليه الصلاة والسلام، وهو اسم سرياني، ويقال: إن أباها كان من ملوك القبط، وأصلها من قرية بأرض مصر تدعى: حفن، بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء. قوله: (فأتته)، أي: فأتت هاجر إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، والحال أنه يصلي. قوله: (فأومأ بيده)، أي: أشار بيده. قوله: (مهيا)، بفتح الميم وسكون الهاء وتخفيف الياء آخر الحروف مقصورا، وهذه رواية المستملي، وفي رواية ابن السكن: (مهين)، بالنون في آخره، وفي رواية الأكثرين: (مهيم)، بالميم في آخره، والكل بمعنى واحد وهو أنها كلمة يستفهم بها معناها: ما حالك؟ وما شأنك؟ ويقال: إن إبراهيم أول من قال هذه الكلمة. قوله: (رد الله كيد الكافر في نحره)، هذا مثل تقوله العرب لمن أراد أمرا باطلا فلم يصل إليه، وفي رواية مسلم: (كف الله يد الفاجر وأخدم خادما).
(٢٤٩)