عمدة القاري - العيني - ج ١٠ - الصفحة ٣٦
وأماط عنه الدم، قال: سمعت يوسف بن عيسى، يقول: سمعت وكيعا يقول حين روى هذا الحديث: لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا، فإن الإشعار سنة، وقولهم بدعة. قال: وسمعت أبا السائب يقول: كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول أبو حنيفة: هو مثلة. قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة. قال: فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا، وقال: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: قال إبراهيم؟ ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا؟ انتهى. وقال الخطابي: لا أعلم أحدا يكره الإشعار إلا أبا حنيفة، قال: وخالفه صاحباه، وقالا بقول عامة أهل العلم. قلت: الجواب عما نقله الترمذي عن وكيع، وعما قاله الخطابي، وعن قول كل من يتعقب على أبي حنيفة بمثل هذا يحصل مما قاله الطحاوي، وقد رأيت كل ما ذكره، وفيه أريحية العصبية والحط على من لا يجوز الحط عليه، وحاشا من أهل الإنصاف أن يصدر منهم ما لا يليق ذكره في حق الأئمة الأجلاء على أن أبا حنيفة قال: لا أتبع الرأي والقياس إلا إذا لم أظفر بشيء من الكتاب أو السنة أو الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وهذا ابن عباس وعائشة، رضي الله تعالى عنهم، قد خير صاحب الهدي في الإشعار، وتركه على ما ذكرناه عن قريب، وهذا يشعر منهما أنهما كانا لا يريان الإشعار سنة ولا مستحبا.
النوع الخامس: في الحكمة في الإشعار: منها: أن البدنة التي أشعرت إذا اختلطت بغيرها تميزت، وإذا ضلت عرفت، ومنها: أن السارق ربما ارتدع فتركها. ومنها: أنها قد تعطب فتنحر، فإذا رأى المساكين عليها العلامة أكلوها، وأنهم يتبعونها إلى المنحر لينالوا منها. ومنها: أن فيها تعظيم شعار الشرع، وحث الغير عليه.
النوع السادس: أن الإشعار مختص بالإبل أم لا؟ فقال ابن بطال: اختلفوا في إشعار البقرة فكان ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، يشعر في أسنمتها، وحكاه ابن حزم عن أبي بن كعب، رضي الله تعالى عنه، أيضا وقال الشعبي: تقلد وتشعر، وهو قول أبي ثور، وقال مالك: تشعر التي لها سناء. وتقلد ولا تشعر التي لا سنام لها وقال سعيد بن جبير تقلد ولا تشعر وأما الغنم فلا يسن إشعارها لضعفها ولأن صوفها يستر موضع الإشعار، وقال ابن التين: وما علمت أحدا ذكر الخلاف في البقرة المسمنة إلا الشيخ أبا إسحاق وما أراه موجودا.
النوع السابع: في التقليد. وهو سنة بالإجماع، وهو تعليق نعل أو جلد ليكون علامة الهدي. وقال أصحابنا: لو قلد بعروة مزادة أو لحي شجرة أو شبه ذلك جاز لحصول العلامة، وذهب الشافعي والثوري إلى أنها تقلد بنعلين، وهو قول ابن عمر، وقال الزهري ومالك: يجزئ واحدة، وعن الثوري: يجزئ فم القربة، ونعلان أفضل لمن وجدهما. وقال ابن بطال: غرض البخاري من هذه الترجمة أن يبين أن المستحب أن لا يشعر المحرم ولا يقلد إلا في ميقات بلده، وقيل: الذي يظهر أن غرضه الإشارة إلى رد قول مجاهد، فإنه قال: لا يشعر حتى يحرم، وهو عكس ما في الترجمة.
وقال نافع كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا أهدى من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة ويطعن في شث سنامه الأيمن بالشفرة ووجهها قبل القبلة باركة مطابقته للترجمة من حيث إن ابن عمر كان يقلد ويشعر بذي الحليفة، فإن بداءته بالتقليد والإشعار يدل على أنه كان يقدمهما على الإحرام، وفي الترجمة كذلك، فإنه قال: ثم أحرم أي: بعد الإشعار والتقليد أحرم، وهذا التعليق وصله مالك في (الموطأ) قال: عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه إذا أهدى هديا من المدينة قلده بذي الحليفة، يقلده قبل أن يشعره، وذلك في مكان واحد، وهو متوجه إلى القبلة يقلده بنعلين، ويشعره من الشق الأيسر ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يدفع به فإذا قدم غداة النحر نحره. فإن قلت: الذي علقه البخاري يدل على الأيمن، والذي رواه مالك يدل على الأيسر. قلت: قال ابن بطال: روى أن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، كان يشعرها مرة في الأيمن، ومرة في الأيسر، فأخذ مالك وأحمد في رواية الأيسر، وأخذ الشافعي وأحمد في رواية أخرى برواية الأيمن، وعن نافع عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: كان إذا طعن في سنام هديه، وهو يشعره، قال: بسم الله والله أكبر. قوله: (إذا أهدى من المدينة) أي: هديه قلده، والضمير المنصوب في قلده، وأشعره يرجع إلى الهدي المقدر الذي هو مفعول: أهدى، وقد صرح
(٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 ... » »»