عمدة القاري - العيني - ج ١٠ - الصفحة ٣٠٤
تصومه قريش من الجاهلية، وكان، عليه الصلاة والسلام، يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان. قال: من شاء صامه ومن شاء تركه). فهذا الحديث ينادي بأعلى صوته أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا، وعن عائشة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وجابر بن سمرة: أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان فمن شاء صام ومن شاء ترك، ذكره ابن شداد في أحكامه. (وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أرسل إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم). متفق عليه، وكان صوما واجبا متعنيا. وقال الحافظ أبو جعفر الطحاوي، رحمه الله: ففي هذه الآثار وجوب صوم عاشوراء، وفي أمره، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، بصومه بعدما أصبحوا، وأمره بالإمساك بعد ما أكلوا دليل على وجوبه، إذا لا يأمر، صلى الله عليه وسلم، في النفل بالإمساك إلى آخر النهار بعد الأكل، ولا بصومه لمن لم يصمه.
وفيه دليل أيضا على أن من كان عليه صوم يوم بعينه ولم يكن نوى صومه من الليل تجزيه النية بعد ما أصبح، والأكثرون على أنه كان فرضا ونسخ بصوم رمضان. فإن قلت: يعارض ما ذكرتم حديث معاوية (أنه قال على المنبر: يا أهل المدينة: أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا يوم عاشوراء، لم يكتب الله عليكم صايمه فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر، وأنا صائم). قلت: بعد النسخ لم يبق مكتوبا علينا، ولأن المثبت أولى من النافي، وقال القائل المذكور: والذي يترجح من أقوال العلماء أنه، أي: إن صوم يوم عاشوراء لم يكن فرضا، وعلى تقدير أنه كان فرضا فقد نسخ بلا ريب، فقد نسخ حكمه وشرائطه. انتهى. قلت: هذا مكابرة فلا يترجح من أقوال العلماء إلا إن كان فرضا، لما ذكرنا من الدلائل، وقوله: فنسخ حكمه وشرائطه غير صحيح، ألا ترى أن التوجه إلى بيت المقدس قد نسخ ولم تنسخ سائر أحكام الصلاة وشرائطها؟ وقوله: وأمره بالإمساك لا يستلزم الأجزاء، لأن الأمر بالإمساك يحتمل أن يكون لحرمة الوقت. قلت: الاحتمال إذا كان ناشئا عن غير دليل لا يعتبر به فبالاحتمال المطلق لا يثبت الحكم ولا ينفي، ثم استدل هذا القائل في قوله: الأمر بالإمساك لا يستلزم الأجزاء بقوله: كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهارا، وكما يؤمر من أفطر يوم الشك، ثم رؤي الهلال، وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء بل قد ورد ذلك صريحا في حديث أخرجه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه: (إن أم أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا. قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه). قلت: هذا القياس باطل، لأن الرمضانية متعينة في الصورة الأولى، ونفيت في الثانية، فكيف لا يؤمر بالقضاء بخلاف ما نحن فيه.
والحديث الذي قوى كلامه به غير صحيح من وجوه. الأول: إن النسائي أخرجه ولم يذكر واقضوه، وقال عبد الحق في (الأحكام الكبرى) ولا يصح هذا الحديث في القضاء، وقال ابن حزم في (المحلى): لفظة: واقضوا، موضوعه بلا شك. الثاني: إن البيهقي قال عبد الرحمن: هذا مجهول ومختلف في اسم أبيه، ولا يدري من عمه، وقال المنذري: قيل عبد الرحمان بن مسلمة، كما ذكره أبو داود. وقيل: ابن سلمة، وقيل: ابن المنهال بن سلمة، ورواه ابن حزم من طريق شعبة عن قتادة عن عبد الرحمان بن المنهال بن سلمة الخزاعي عن عمه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسلم: صوموا اليوم، قالوا: إنا قد أكلنا، قال: صوموا بقية يومكم، يعني عاشوراء) وفي رواية أخرى أخرجها ابن حزم أيضا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة (عن عبد الرحمان بن مسلمة الخزاعي عن عمه، قال: غدونا على رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عاشوراء، فقال لنا: أصبحتم صياما؟ قلنا: قد تغدينا يا رسول الله! فقال: فصوموا بقية يومكم، ولم يأمرهم بالقضاء). الثالث: أن شعبة قال: كنت أنظر إلى فم قتادة، فإذا قال: حدثن كتبت، وإذا قال: عن فلان) أو قال: فلان لم أكبه، وهو مدلس دلس عن مجهولين، وقال الكرابيسي وغيره: فإذا قال المدلس: حدثنا، يكون حجة، وإذا قال: فلان قال، أو: عن فلان، لا يكون حجة، فلا يجوز الاحتجاج به، فإذا كانت الرواية، يعني عن الثقة المعروف بالحفظ والضبط، لا تكون حجة فكيف تكون حجة؟ وقد رواه عن مجهول؟ وقال القاضي عياض: رواية: واقضوا، قاطعة لحجة المخالف، ونص ما يقوله الجمهور وجوب اعتبار النية من الليل، وأن نيته من النهار غير معتبرة ورد عليه بأنه كيف يحتج بما ليس بحجة على خصمه مع علمه، ويعتقد أنه يخفي، وذكر ما ذكرنا من الوجوه، ثم قال هذا القائل: واحتج الجمهور
(٣٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 296 297 298 299 300 301 302 303 304 305 306 » »»