عمدة القاري - العيني - ج ١٠ - الصفحة ٣٠٠
أجيب بأنه أمر ندب بالإجماع، وقال القاضي عياض: أجمع الفقهاء على أن السحور مندوب إليه ليس بواجب، والأوجه أن يقال: إن الأمر الذي مقتضاه الوجوب هو المجرد عن القرائن، وههنا قرينة تدفع الوجوب، وهو أن السحور إنما هو أكل للشهوة وحفظ القوة، وهو منفعة لنا، فلو قلنا بالوجوب ينقلب علينا، وهو مردود، وقال ابن بطال: في هذه الترجمة غفلة من البخاري لأن قد خرج بعد هذا حديث أبي سعيد: (أيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر)، فجعل غاية الوصال السحر، وهو وقت السحور قال: والمفسر يقضي على المجمل. انتهى. وأجيب: بأن البخاري لم يترجم على عدم مشروعية السحور، وإنما ترجم على عدم إيجابه، وأخذ من الوصال عدم وجوب السحور.
2291 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا جويرية عن نافع عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل فواصل الناس فشق عليهم فناهم قالوا إنك تواصل قال لست كهيئتكم إني أظل أطعم واسقى.
مطابقته للجزء الثاني للترجمة، وهو قوله: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا).
ورجاله قد تكرر ذكرهم، وجويرية تصغير جارية وهو جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري، وعبد الله هو ابن عمر.
وأخرجه مسلم، وقال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك عن نافع (عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل! قال: إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى).
قوله: (واصل)، أي: بين الصومين في غير إفطار بالليل، وواصل الناس، أيضا تبعا له، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. قوله: (فشق عليهم) أي: فشق الوصال على الناس لمشقة الجوع والعطش. قوله: (فنهاهم) أي: عن الوصال لما رأى مشقتهم. قوله: (إنك مواصل)، ويروى: (فإنك تواصل). قوله: (لست كهيئتكم) أي: لسي حالي مثل حالكم، ويقال: لفظ الهيئة زائد، أي: لست كأحدكم. قوله: (أظل)، بفتح الهمزة والظاء المعجمة من ظل يظل، يقال: ظللت أعمل كذا بالكسر ظلولا إذا عملته بالنهار دون الليل. فإن قلت: إذا كان لفظ ظل لا يكون إلا بالنهار، فكيف يكون المعنى هنا؟ قلت: قد جاء ظل أيضا بمعنى صار، قال تعالى: * () * (النحل: 85) ويجوز أيضا إرادة الوقت المطلق لا المقيد بالنهار، ويؤيده ما جاء في الرواية الأخرى لفظ: (أبيت أطعم وأسقى)، ويجوز أن يكون: ظل، على بابه، ويكون المعنى: (أظل أطعم وأسقى) لا على صورة طعامكم وسقيكم، لأن الله تعالى يفيض عليه ما يسد مسد طعامه وشرابه من حيث إنه يشغله عن إحساس الجوع والعطش، ويقويه على الطاعة، ويحرسه عن تحليل يفضي إلى ضعف القوي وكلال الحواس.
فإن قلت: هل يجوز أن يكون المعنى على ظاهره بأن يرزقه طعاما وشرابا من الجنة؟ قلت: قد قيل ذلك، ولا مانع منه لأنه أكرم على الله من ذلك. فإن قلت: لو كان المعنى على حقيقته لم يكن مواصلا. قلت: طعام الجنة وشرابها ليس كطعام الدنيا وشرابها، فلا يقطع الوصال. وقيل: هو من خصائصه لا يشاركه فيه أحد من الأمة فإن قلت: ما حكمة النهي فيه؟ قلت: إيراث الضعف والعجز عن المواظبة على كثير من وظائف الطاعات والقيام بحقوقها، وللعلماء فيه اختلاف في أنه نهى تحريم أو تنزيه، والظاهر الأول. فإن قلت: هل هو نهي عن عبادة في حق من أطاقها وحرص عليها؟ قلت: لا، لأنه كان خوفا أن يؤدي ذلك إلى المنازعة، لأنه كان من خصائصه، كما قال بعضهم: فإن قلت: جاء الوصال عن جماعة من الصحابة وغيرهم، ففي كتاب (الأوائل) للعسكري: كان ابن الزبير يواصل خمسة عشر يوما حتى تيبس أمعاؤه، فإذا كان يوم فطره أتى بسمن وصبر فيحساه حتى لا تنفتق الأمعاء، وعن عامر بن عبد الله بن الزبير أنه كان يواصل ليلة ست عشرة، وليلة سبع عشرة من رمضان لا يفرق بينهما، ويفطر على السمن، فقيل له، فقال: السمن يبل عروقي، والماء يخرج من جسدي. قلت: قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، واختلفوا في تأويله، فقيل: نهى عنه رفقا بهم، فمن قدر على الوصال فلا حرج عليه لأنه لله، عز وجل، يدع طعامه وشرابه، وكان عبد الله بن الزبير وجماعة يواصلون الأيام، وكان أحمد وإسحاق لا يكرهان الوصال من سحر إلى سحرلا غير، وكره
(٣٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 295 296 297 298 299 300 301 302 303 304 305 ... » »»