عمدة القاري - العيني - ج ٨ - الصفحة ٦٩
بالآية المذكورة نظر لا يخفى.
واعلم أن الناس اختلفوا في زيارة القبور، فقال الحازمي: أهل العلم قاطبة على الإذن في ذلك للرجال. وقال ابن عبد البر: الإباحة في زيارة القبور إباحة عموم، كما كان النهي عن زيارتها نهي عموم، ثم ورد النسخ في الإباحة على العموم، فجائز للرجال والنساء زيارة القبور، وروى في الإباحة أحاديث كثيرة. منها: حديث بريدة أخرجه مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها..) الحديث، ورواه الترمذي أيضا ولفظه: (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر بالآخرة). ومنها: حديث ابن مسعود أخرجه ابن ماجة عنه: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور، فإنها تذكر في الدنيا وتذكر الآخرة). ومنها: حديث أنس أخرجه ابن أبي شيبة عنه، قال: (نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن زيارة القبور، ثم قال: زوروها ولا تقولوا هجرا) يعني سوأ. ومنها: حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود عنه، قال: (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزورها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت). ورواه أيضا مختصرا. ومنها: حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، أخرجه ابن ماجة عنها: (أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رخص في زيارة القبور). ومنها: حديث حيان الأنصاري أخرجه الطبراني في (الكبير) قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر..) الحديث، وفيه: (وأحل لهم ثلاثة أشياء كان ينهاهم عنها: أحل لهم لحوم الأضاحي وزيارة القبور والأوعية). ومنها: حديث أبي ذر، أخرجه الحاكم عنه قال: (قال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: زر القبور تذكر بها الآخرة). ومنها: حديث علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، أخرجه أحمد عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة). ومنها: حديث ابن عباس، أخرجه أحمد عنه: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم). ومنها: حديث مجمع بن جارية، أخرجه ابن أبي الدنيا: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى المقبرة، فقال: السلام على أهل القبور..) الحديث، وفيه: إسماعيل بن عياش.
وعن عمر، رضي الله تعالى عنه، (أنه أتى المقبرة فسلم عليهم، وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عليهم) وعند ابن عبد البر، بسند صحيح: (ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام). ولما أخرج الترمذي حديث بريدة، قال: والعمل على هذا عند أهل العلم: لا يرون بزيارة القبور بأسا. وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. ولما روى حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله زوارات القبور)، قال: هذا حديث حسن صحيح، ثم قال: وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء، وقال بعضهم: إنما تكره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن. وروى أبو داود عن ابن عباس، قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)، واحتج بهذا الحديث قوم، فقالوا: إنما اقتضت الإباحة في زيارة القبور للرجال دون النساء، وقال ابن عبد البر: يمكن أن يكون هذا قبل الإباحة. قال: وتوقي ذلك للنساء المتجملات أحب إلي، وإما الشواب فلا يؤمن من الفتنة عليهن وبهن حيث خرجن، ولا شيء للمرأة أحسن من لزوم قعر بيتها. ولقد كره أكثر العلماء خروجهن إلى الصلوات فكيف إلى المقابر؟ وما أظن سقوط فرض الجمعة عليهن إلا دليلا على إمساكهن عن الخروج فيما عداها. قال: واحتج من أباح زيارة القبور للنساء، بحديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، رواه في (التمهيد) من رواية بسطام بن مسلم عن أبي التياح (عن عبد الله بن أبي مليكة: أن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، فقلت لها: أليس كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان ينهى عن زيارتها ثم أمر بزيارتها)، وفرق قوم بين قواعد النساء وبين شبابهن، وبين أن ينفردن بالزيارة أو يخالطن الرجال، فقال القرطبي: أما الشواب فحرام عليهن الخروج، وأما القواعد فمباح لهن ذلك، قال: وجائز ذلك لجميعهن إذا انفردن بالخروج عن الرجال. قال: ولا يختلف في هذا إن شاء الله تعالى. وقال القرطبي أيضا: حمل بعضهم حديث الترمذي في المنع على من يكثر
(٦٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 ... » »»