عمدة القاري - العيني - ج ٨ - الصفحة ٦٨
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الجنائز عن بندار عن غندر وفي الأحكام عن إسحاق ابن منصور. وأخرجه مسلم في الجنائز عن بندار عن غندر وعن أبي موسى وعن عقبة بن مكرم وعن أحمد بن إبراهيم وزهير بن حرب. وأخرجه أبو داود فيه عن أبي موسى محمد بن المثنى. وأخرجه الترمذي فيه عن بندار به مختصرا. وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي عن غندر به وفي اليوم والليلة عن عمرو بن علي عن أبي داود عنه به.
ذكر معناه: قوله: (بامرأة)، لم يوقف على اسمها. قوله: (عند قبر)، ولفظ مسلم: (أتى على امرأة تبكي على صبي لها فقال لها: اتقي الله واصبري، فقالت: وما تبالي؟ مصيبتي. فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها مثل الموت فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند أول صدمة. أو قال: عند أول الصدمة). وفي رواية عبد الرزاق: (قد أصيبت بولدها). قوله: اتقي الله) قال القرطبي: الظاهر أنها كانت تنوح وهي تبكي، فلهذا أمرها بالتقوى، وهو الخوف من الله تعالى، وقال الطيبي: (اتقي الله) توطئة لقوله: (واصبري) كأنه قال لها: خافي غضب الله إن لم تصبري ولا تجزعي ليحصل لك الثواب، وفي رواية أبي نعيم في (المستخرج): (فقال: يا أمة الله اتقي الله). قوله: (إليك) من أسماء الأفعال ومعناها: تنح عني وأبعد. قوله: (فإنك لم تصب)، على صيغة المجهول، وفي لفظ للبخاري في الأحكام من وجه آخر عن شعبة: (فإنك خلو من مصيبتي)، والخلو بكسر الخاء المعجمة وسكون اللام. وفي لفظ لمسلم: (ما تبالي مصيبتي). وفي رواية أبي يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة أنها قالت: (يا عبد الله أنا الحراء الثكلاء، ولو كنت مصابا عذرتني)، وفي بعض النسخ بعد قوله: (فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه). الواو فيه للحال أي: قالت للنبي صلى الله عليه وسلم هذا القول والحال أنها لم تعرف النبي صلى الله عليه وسلم إذ لو عرفته لما خاطبته بهذا الخطاب. قوله: (فقيل لها) أي: للمرأة المذكورة، فكأن القائل لها واحد ممن كان هناك، وفي رواية الأحكام: (فمر بها رجل فقال لها: إنه رسول الله). وفي رواية أبي يعلى: (قال: فهل تعرفينه؟ قالت: لا) وفي رواية الطبراني في (الأوسط) من طريق عطية عن أنس أن الذي سألها هو الفضل بن عباس، وقد مر في رواية مسلم: (فأخذها مثل الموت) أي: من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خجلا منه ومهابة. قوله: (فلم تجد عنده) أي: لم تجد هذه المرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم (بوابين) يمنعون الناس، وفي رواية الأحكام: (بوابا) بالإفراد. قال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم استشعرت خوفا وهيبة في نفسها، فتصورت أنه مثل الملوك له صاحب أو بواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته. قوله: (فقالت: لم أعرفك)، وفي حديث أبي هريرة (فقالت: والله ما عرفتك). قوله: (إنما الصبر) أي: إنما الصبر الكامل، ليصح معنى الحصر على الصدمة الأولى، وفي رواية الأحكام: (عند أول صدمة). وأصل الصدم لغة: الضرب في الشيء الصلب، ثم استعير لكل أمر مكروه، وحاصل المعنى: أن الصبر الذي يكون عند الصدمة الأولى هو الذي يكون صبرا على الحقيقة، وأما السكون بعد فوات المصيبة ربما لا يكون صبرا، بل قد يكون سلواه، كما يقع لكثير من أهل المصائب، بخلاف أول وقوع المصيبة، فإنه يصدم القلب بغتة فلا يكون السكون عند ذلك، والرضى بالمقدور إلا صبرا على الحقيقة. وقال الخطابي: المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك، فإنه على الأيام يسلو. وقيل: إن المرء لا يؤجر على المصيبة لأنها ليست من صنعه، وإنما يؤجر على حسن نيته وجميل صبره، وقال ابن بطال: أراد أن لا يجتمع عليها مصيبة الهلاك وفقد الأجر.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: ما كان عليه، صلى الله عليه وسلم، من التواضع والرفق بالجاهل، وترك مؤاخذة المصاب وقبول اعتذاره. وفيه: إن الحاكم لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس. وفيه: أن من أمر بمعروف ينبغي له أن يقبل وإن لم يعرف الآمر. وفيه: أن الجزع من المنهيات لأمره، صلى الله عليه وسلم، لها بالتقوى مقرونا بالصبر. وفيه: الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة ونشر الموعظة. وفيه: أن المواجهة بالخطاب إذا لم تصادف المنوي لا أثر لها. وبنى عليه بعضهم ما إذا قال: يا هند أنت طالق، فصادف عمرة أن عمرة لا تطلق. وفيه: جواز زيارة القبور مطلقا، سواء كان الزائر رجلا أو امرأة، وسواء كان المزور مسلما أو كافرا لعدم الفصل في ذلك. وقال النووي: وبالجواز قطع الجمهور، وقال الماوردي: لا يجوز زيارة قبر الكافر، مستدلا بقوله تعالى: ولا تقم على قبره) * (التوبة: 48). وهذا غلط. وفي الاستدلال
(٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 ... » »»