هو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر هو التتمة اللازمة في حق العبودية، وإنما هو أمارة مخيلة في مطالقة علم العواقب غير مفيدة حقيقة، وبين لهم أن كلا ميسر لما خلق له، وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل، ولذلك مثل بقوله تعالى: * (فأما من أعطى واتقى) * (اليل: 5). الآية، ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، والأجل المضروب مع التعالج بالطب، فإنك تجد الباطن منهما على موجبه، والظاهر سببا مخيلا، وقد اصطلحوا على أن الظاهر منهما لا يترك للباطن.
ذكر ما يستفاد منه: قال ابن بطال: هذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاوة بخلق الله تعالى، بخلاف قول القدرية الذين يقولون: إن الشر ليس بخلق الله. وقال النووي: فيه إثبات للقدر، وإن جمع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره، لا يسأل عما يفعل، وقيل: إن سر القدر ينكشف للخلائق إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف لهم قبل دخولها، وفيه رد على أهل الجبر، لأن المجبر لا يأتي الشيء إلا وهو يكرهه، والتيسير ضد الجبر، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز عن أمتي ما استكرهوا عليه). قال: والتيسير هو أن يأتي الإنسان الشيء وهو يحبه.
واختلف أهل يعلم في الدنيا الشقي من السعيد؟ فقال قوم: نعم، محتجين بهذه الآية الكريمة، والحديث لأن كل عمل أمارة على جزائه. وقال قوم: لا، والحق في ذلك أنه يدرك ظنا لا جزما. وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية: من اشتهر له لسان صدق في الناس من صالحي هذه الأمة هل يقطع له بالجنة؟ فيه قولان للعلماء رحمهم الله.
وفيه: جواز القعود عند القبور والتحدث عندها بالعلم والمواعظ. وفيه: نكته صلى الله عليه وسلم بالمخصرة في الأرض. أصل تحريك الإصبع في التشهد. قاله المهلب. فإن قلت: ما معنى النكت بالمخصرة؟ قلت: هو إشارة إلى إحضار القلب للمعاني. وفيه: نكس الرأس عند الخشوع والتفكر في أمر الآخرة. وفيه: إظهار الخضوع والخشوع عند الجنازة، وكانوا إذا حضروا جنازة يلقى أحدهم حبيبه ولا يقبل عليه إلا بالسلام حتى يرى أنه واجد عليه، وكانوا لا يضحكون هناك، ورأى بعضهم رجلا يضحك فآلى أن لا يكلمه أبدا، وكان يبقى أثر ذلك عندهم ثلاثة أيام لشدة ما يحصل في قلوبهم من الخوف والفزع. وفيه: أن النفس المخلوقة إما سعيدة وإما شقية، ولا يقال: إذا وجبت الشقاوة والسعادة بالقضاء الأزلي والقدر الإلهي فلا فائدة في التكليف، فإن هذا أعظم شبه النافين للقدر، وقد أجابهم الشارع بما لا يبقى معه إشكال، ووجه الانفصال أن الرب تعالى أمرنا بالعمل، فلا بد من امتثاله، وغيب عنا المقادير لقيام حجته وزجره، ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته، فسبيله التوقف، فمن عدل عنه ضل لأن القدر سر من أسراره لا يطلع عليه إلا هو فإذا دخلوا الجنة كشف لهم.
38 ((باب ما جاء في قاتل النفس)) أي: هذا باب في بيان ما جاء من الأخبار في حق قاتل النفس، قيل: مقصود الترجمة حكم قاتل النفس، والمذكور في الباب حكم قاتل نفسه فهو أخص من الترجمة، ولكنه أراد أن يلحق بقاتل نفسه قاتل غيره من باب الأولى. قلت: قوله: قاتل النفس، أعم من أن يكون قاتل نفسه، وقاتل غيره، فهذا اللفظ يشمل القسمين فلا يحتاج في ذلك إلى دعوى الأخصية ولا إلى إلحاق قاتل الغير بقاتل نفسه، ولا يلزم أن يكون حديث الباب طبق الترجمة من سائر الوجوه، بل إذا صدق الحديث على جزء ما صدقت عليه الترجمة، كفى. وقيل: عادة البخاري إذا توقف في شيء ترجم عليه ترجمة مبهمة كأنه ينبه على طريق الاجتهاد، وقد نقل عن مالك أن قاتل النفس لا تقبل توبته، ومقتضاه أن لا يصلى عليه. قلت: لا نسلم أن هذه الترجمة مبهمة، والإبهام من أين جاء وهي ظاهرة في تناولها القسمين المذكورين كما ذكرنا؟ وقال بعضهم:
لعل البخاري أشار بذلك إلى ما رواه أصحاب السنن من حديث جابر بن سمرة، رضي الله تعالى عنه: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، (أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه). وفي رواية للنسائي: (أما أنا فلا أصلي عليه) لكنه لما لم يكن على شرطه أومأ إليه بهذه الترجمة وأورد فيها ما يشبهه من قصة قاتل نفسه. قلت: توجيه كلام البخاري في الترجمة بالتخمين لا يفيد، وكلامه ظاهر لا يحتاج إلى هذا التكلف، والوجه ما ذكرناه.