عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ١٣٢
منه مع الغنى، فكان أفضل بمعنى أشرف. وذكر القرطبي: أن في هذه المسألة خمسة أقوال: فمن قائل بتفضيل الغني، من قائل بتفضيل الفقير. ومن قائل بتفضيل الكفاف. ومن قائل برد هذا إلى اعتبار أحوال الناس في ذلك. ومن قائل بالوقف لأنها مسألة لها غور، وفيها أحاديث متعارضة. قال: والذي يظهر لي أن الأفضل ما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولجمهور صحابته، رضي الله تعالى عنهم، وهو الفقر غير المدقع، ويكفيك من هذا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، وأصحاب الأموال محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار يسألون عن فضول أموالهم. وقال ابن بطال عن المهلب في هذا الحديث: فضل الغني نصا لا تأويلا إذا استوت أعمال الغني والفقير فيما افترض الله تعالى عليهما، فللغني حينئذ فضل عمل البر من الصدقة ونحوها، مما لا سبيل للفقير إليه. قال: ورأيت بعض المتكلمين ذهب إلى أن الفضل المرتب على الذكر يخص الفقراء دون غيرهم، قال: وغفل عن قوله: (إلا من عمل مثله)، فخص الفضل لقائله كائنا من كان، وقال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث القريب من النص أنه فضل الغني وبعض الناس، تأوله بتأويل مستكره، قال: والذي يقتضيه النظر أنهما إن تساويا وفضلت العبادة المالية أن يكون الغني أفضل، وهذا لا شك فيه، وإنما النظر إذا تساويا وانفرد كل منهما بمصلحة ما هو فيه، أيهما أفضل؟ إن فسر الفضل بزيادة الثواب فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة، فيترجح الغني، وإن فسر بالأشرف بالنسبة إلى صفات النفس، فالذي يحصل لها من التطهير بحسب الفقر أشرف، فيترجح الفقر، ومن ثمة ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر.
ومن فوائد الحديث المذكور: أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس الفاضل، لئلا يقع الخلاف. ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله: (ألا أدلكم على أمر تساوونهم فيه) وعدل عن قوله: نعم هو أفضل منكم بذلك. ومنها: المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلغهم، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيستنبط منه أن قوله: (إلا من عمل)، عام للفقراء والأغنياء، والتأويل بغير ذلك يرد. ومنها: فضل الذكر عقيب الصلوات لأنها أوقات فاضلة ترتجي فيها إجابة الدعاء. ومنها: أن العمل القاصر قد يساوي المتعدي، خلافا لمن قال: إن المتعدي أفضل مطلقا قلت: ومما يؤيده أن الثواب الذي يعطيه الله تعالى لا يستحقه الإنسان بحسب الأذكار، ولا بحسب إعطاء الأموال، إنما هو * (فضل الله يؤتيه من يشاء) * (المائدة: 54، الحديد: 21، والجمعة: 4). ألا ترى إلى ما روي في (الصحيحين): عن أبي هريرة من رواية سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم..) الحديث. وفيه: (قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) * (المائدة: 54، الحديد: 21، والجمعة: 4). ومنها: يفهم منه أنه لا بأس أن يغبط الرجل الرجل على ما يفعله من أعمال البر، وأنه يتمنى أن لو فعل مثل ما فعله، ويتسبب في تحصيله لذلك أو لما يقوم مقامه من أعمال البر، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا حسد إلا في اثنتين..) الحديث. وأطلق هنا الحسد وأراد به الغبطة، فأما حقيقة الحسد فمذموم، وهو: تمني زوال نعمة المحسود، كحسد إبليس لآدم، عليه الصلاة والسلام، على تفضيل الله له عليه، وأما قوله تعالى: * (ولا تتمنوا ما فضل الله بعضكم على بعض) * (المائدة: 54). فهو تمني ما لا يمكن حصوله مما خص الله غيره به، كتمني النساء ما خص الله به الرجال من الإمامة والأذان، وجعل الطلاق إليهن، وكتمني أحد من هذه الأمة أن يكون نبيا بعدما أخبر الله تعالى أن نبينا، صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء.
844 ح دثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال أملى علي المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد..
(١٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 127 128 129 130 131 132 133 134 135 136 137 ... » »»