عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ١٢٩
* (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * (الحج: 47). وروى أبو داود من رواية محمد ابن أبي عائشة عن أبي هريرة، قال: (قال أبو ذر: يا رسول الله ذهب أصحاب الدثور بالأجور..) الحديث، وذكر التكبير والتحميد والتسبيح ثلاثا وثلاثين، وزاد: (ويختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على شيء قدير، غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر). وروى النسائي في اليوم والليلة، من رواية عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح: (عن أبي الدرداء، قال: قلت: يا رسول الله ذهب أهل الأموال بالدنيا والآخرة، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويذكرون كما نذكر، ويجاهدون كما نجاهد، ولا نجد ما نتصدق به. قال: ألا أخبرك بشيء إذا أنت فعلته أدركت من كان قبلك ولم يلحقك من كان بعدك إلا من قال مثل ما قلت؟ تسبح الله دبر كل صلاة ثلاثة وثلاثين، وتحمده ثلاثا وثلاثين، وتكبر أربعا وثلاثين تكبيرة). قوله: (يحجون بها)، فإن قلت: وقع في رواية جعفر الفريابي من حديث أبي الدرداء: (ويحجون كما نحج). قلت: اشتراكهم في الحج كان في الماضي، وأما المتوقع فلا يقدر عليه إلا أصحاب الأموال غالبا، فإن جاءت رواية: ويحجون بها، بضم الياء من الإحجاج أي: يعينون غيرهم على الحج بالمال، فلا إشكال، وكذلك الجواب في قوله: (ويجاهدون)، ههنا في الدعوات من رواية ورقاء عن سمي: (وجاهدوا كما جاهدنا). قوله: (ويتصدقون)، ووقع في رواية مسلم من رواية ابن عجلان عن سمي: (ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق). قوله: (ألا) كلمة تنبيه وتحضيض. قوله: (بما إن أخذتم به؟) أي: بشيء إن أخذتموه أدركتم من سبقكم من أهل الأموال في الدرجات العلى؟ وليست كلمة: (بما)، في أكثر الروايات، كذا وقع في رواية الأصيلي بدون: بما، ولفظه: (ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم..) وكذا في رواية الإسماعيلي. قوله: (به)، الضمير فيه يرجع إلى قوله: (بما)، لأن: ما، بمعنى: شيء كما ذكرناه، وسقطت أيضا هذه اللفظة في أكثر الروايات. قوله: (أدركتم)، جواب: إن، وقوله: (من سبقكم) في محل النصب لأنه مفعول: أدركتم، والمعنى: أدركتم من سبقكم من أهل الأموال الذين امتازوا عليكم بالصدقة والسبقية. وقال الكرماني: كيف يساوي قول هذه الكلمات مع سهولتها وعدم مشقتها الأمور الشاقة الصعبة من الجهاد ونحوه، وأفضل العبادات أحمزهما؟ قلت: أداء هذه الكلمات حقها الإخلاص، سيما الحمد في حال الفقر من أفضل الأعمال وأشقها، ثم إن الثواب ليس بلازم أن يكون على قدر المشقة، ألا ترى في التلفظ بكلمة الشهادة من الثواب ما ليس في كثير من العبادات الشاقة؟ وكذا الكلمة المتضمنة لتمهيد قاعدة خير عام، ونحوها؟ قال العلماء: إن إدراك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة خير وفضيلة لا يوازيها عمل، ولا تنال درجتها بشيء، ثم إن كانت نيتهم، لو كانوا أغنياء لعملوا مثل عملهم وزيادة، (ونية المؤمن خير من عمله)، فلهم ثواب هذه النية وهذه الأذكار. قوله: (لم يدرككم)، قال الكرماني: فإن قلت: لم لا يحصل لمن بعدهم ثواب ذلك؟ قلت: إلا من عمل استثناء منه أيضا، كما هو مذهب الشافعي في أن الاستثناء المتعقب للجمل عائد إلى كلها. قوله: (بين ظهرانيهم)، بفتح النون وسكون الياء آخر الحروف، وفي رواية كريمة وأبي الوقت: (بين ظهرانيه)، بالإفراد، ومعناه: أنهم أقاموا بينهم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم، وزيدت فيه الألف والنون المفتوحة تأكيدا، ومعناه: إن ظهرا منهم قدامه، وظهرا وراءه، فهو مكنون من جانبيه، ومن جوانبه إذا قيل: بين أظهرههم، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم. قال الكرماني: فإن قلت: قال أولا: (أدركتم من سبقكم) يعني: تساوونهم، وثانيا: كنتم خير من أنتم بينهم)، يعني تكونون أفضل منهم، فتلزم المساواة وعدم المساواة على تقدير عدم عملهم مثله؟ قلت: لا نسلم أن الإدراك يستلزم المساواة، فربما يدركهم ويتجاوز عنهم. قوله: (إلا من عمل مثله) أي: إلا الغني الذي يسبح، فإنكم لم تكونوا خيرا منهم، بل هو خير منكم أو مثلكم نعم، إذا قلنا الاستثناء يرجع إلى الجملة الأولى أيضا، يلزم قطعا كون الأغنياء أفضل، إذ معناه: إن أخذتم أدركتم إلا من عمل مثله، فإنكم لا تدركونه. فإن قلت: فالأغنياء إذا سبحوا يترجحون فيبقى بحاله ما شكا الفقراء منه، وهو رجحانهم من جهة الجهاد وإخواته. قلت: مقصود الفقراء منه تحصيل الدرجات العلى والنعيم المقيم لهم أيضا، لا نفي زيادتهم مطلقا، قوله: (تسبحون وتحمدون وتكبرون) كذا وقع في أكثر الأحاديث تقديم التسبيح على التحميد وتأخير التكبير، وفي رواية ابن عجلان: تقديم التكبير على التحميد خاصة، وفي حديث ابن ماجة: تقديم التحميد على التسبيح، فدل هذا الاختلاف على أن لا ترتيب فيها، ويدل عليه الحديث الذي فيه الباقيات الصالحات: (لا يضرك
(١٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 124 125 126 127 128 129 130 131 132 133 134 ... » »»