عمدة القاري - العيني - ج ٥ - الصفحة ٥٣
قوله: (سجدة)، معناها: الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها، فسميت على هذا المعنى سجدة: فإن قلت: ما الفرق بين قوله: (من أدرك من الصبح سجدة؟) وبين قوله: (من أدرك سجدة من الصبح؟) قلت: رواية تقدم السجدة هي السبب الذي به الإدراك، ومن قدم الصبح أو العصر قبل الركعة فلأن هذين الإسمين هما اللذان يدلان على هاتين الصلاتين دلالة خاصة تتناول جميع أوصافها، بخلاف السجدة فإنها تدل على بعض أوصاف الصلاة، فقدم اللفظ الأعم الجامع.
ذكر ما يستفاد منه من الأحكام منها: أن فيه دليلا صريحا في أن من صلى ركعة من العصر، ثم خرج الوقت قبل سلامه لا تبطل صلاته، بل يتمها، وهذا بالإجماع. وأما في الصبح فكذلك عند الشافعي ومالك وأحمد. وعند أبي حنيفة: تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس فيها، وقالوا: الحديث حجة على أبي حنيفة. وقال النووي: قال أبو حنيفة: تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس فيها، لأنه دخل وقت النهي عن الصلاة، بخلاف الغروب، والحديث حجة عليه. قلت: من وقف على ما أسس عليه أبو حنيفة عرف أن الحديث ليس بحجة عليه، وعرف أن غير هذا الحديث من الأحاديث حجة عليهم، فنقول: لا شك أن الوقت سبب للصلاة وظرف لها، ولكن لا يمكن أن يكون كل الوقت سببا، لأنه لو كان كذلك يلزم تأخير الأداء عن الوقت، فتعين أن يجعل بعض الوقت سببا، وهو الجزء الأول لسلامته عن المزاحم، فإن اتصل به الأداء تقررت السببية وإلا تنتقل إلى الجزء الثاني والثالث والرابع وما بعده إلى أن يتمكن فيه من عقد التحريمة إلى آخر جزء من أجزاء الوقت، ثم هذا الجزء إن كان صحيحا، بحيث لم ينسب إلى الشيطان ولم يوصف بالكراهة كما في الفجر، وجب عليه كاملا، حتى لو اعترض الفساد في الوقت بطلوع الشمس في خلال الصلاة فسدت، خلافا لهم، لأن ما وجب كاملا لا يتأدى بالناقص، كالصوم المنذور المطلق وصوم القضاء لا يتأدى في أيام النحر والتشريق، وإذا كان هذا الجزء ناقصا كان منسوبا إلى الشيطان: كالعصر وقت الاحمرار وجب ناقصا، لأن نقصان السبب مؤثر في نقصان المسبب، فيتأدى بصفة النقصان لأنه أدى كما لزم، كما إذا أنذر صوم النحر وأداه فيه، فإذا غربت الشمس في أثناء الصلاة لم تفسد العصر، لأن ما بعد الغروب كامل فيتأدى فيه، لأن ما وجب ناقصا يتأدى كاملا بالطريق الأولى. فإن قلت: يلزم أن تفسد العصر إذا شرع فيه في الجزء الصحيح ومدها إلى أن غربت. قلت: لما كان الوقت متسعا جاز له شغل كل الوقت، فيعفى الفساد الذي يتصل به بالبناء، لأن الاحتراز عنه مع الإقبال على الصلاة متعذر، وأما الجواب عن الحديث المذكور فهو ما ذكره الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي، وهو: أنه يحتمل أن يكون معنى الإدراك في الصبيان الذين يدركون، يعني يبلغون قبل طلوع الشمس، والحيض اللاتي يطهرن، والنصارى الذين يسلمون، لأنه لما ذكر في هذا الإدراك ولم يذكر الصلاة فيكون هؤلاء الذين سميناهم ومن أشبههم مدركين لهذه الصلاة، فيجب عليهم قضاؤها، وإن كان الذي بقي عليهم من وقتها أقل من المقدار الذي يصلونها فيه. فإن قلت: فما تقول فيما رواه أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته). رواه البخاري والطحاوي أيضا فإنه صريح في ذكر البناء بعد طلوع الشمس؟ قلت: قد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس ما لم تتواتر بإباحة الصلاة عند ذلك، فدل ذلك على أن ما كان فيه الإباحة كان منسوخا بما كان فيه التواتر بالنهي. فإن قلت: ما حقيقة النسخ في هذا والذي تذكره احتمال؟ وهل يثبت النسخ بالاحتمال؟ قلت: حقيقة النسخ هنا أنه اجتمع في هذا الموضع محرم ومبيح، وقد تواترت الأخبار والآثار في باب المحرم ما لم تتواتر في باب المبيح، وقد عرف من القاعدة أن المحرم والمبيح إذا اجتمعا يكون العمل للمحرم، ويكون المبيح منسوخا، وذلك لأن الناسخ هو المتأخر، ولا شك أن الحرمة متأخرة عن الإباحة لأن الأصل في الأشياء الإباحة، والتحريم عارض، ولا يجوز العكس لأنه يلزم النسخ مرتين. فافهم. فإنه كلام دقيق قد لاح لي من الأنوار الإلهية. فان قلت إنما ورد النهي المذكور عن الصلاة في التطوع خاصة وليس بنهي عن قضاء الفرائض قلت: دل حديث عمران بن حصين الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما على أن الصلاة الفائتة قد دخلت في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعن عمران أنه قال: (سرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، أو قال: في سرية، فلما كان آخر السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس...) الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أخر صلاة الصبح حتى فاتت عنهم إلى أن ارتفعت الشمس، ولم يصلها قبل الارتفاع، فدل ذلك أن النهي عام يشمل الفرائض والنوافل، والتخصيص بالتطوع ترجيح بلا مرجح.
(٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 49 50 51 52 53 53 53 53 53 54 59 ... » »»