فوائد: الأولى: الاستشكال في إثبات الأذان برؤيا عبد الله بن زيد، لأن رؤيا غير الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لا يبني عليها حكم شرعي، والجواب: مقارنة الوحي لذلك، وفي مسند الحارث بن أبي أسامة: (أول من أذن بالصلاة جبريل، عليه الصلاة والسلام، في السماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال، رضي الله تعالى عنهما، فسبق عمر بلالا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: سبقك بها عمر). وقال الداودي: (روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، عليه الصلاة والسلام، بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام). ذكره ابن إسحاق، قال: وهو أحسن ما جاء في الأذان، وقد ذكرنا في أول الباب أن الزمخشري نقل عن بعضهم أن الأذان بالوحي لا بالمنام وحده. وفي كتاب أبي الشيخ: من حديث عبد العزيز بن عمران عن أبي المؤمل عن أبي الرهين عن عبد الله بن الزبير قال: (أخذ الأذان من أذان إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، * (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا...) * (الحج: 27). الآية، قال: فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال السهيلي: الحكمة في تخصيص الأذان برؤيا رجل. ولم يكن بوحي، فلأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أريه ليلة الإسراء فوق سبع سماوات، وهو أقوى من الوحي. فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة، وأراد إعلام الناس بوقت الصلاة، فلبث الوحي حتى رأى عبد الله الرؤيا، فوافقت ما كان رآه في السماء، قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى). وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض، وقوي ذلك موافقة رؤيا عمر، مع أن السكينة تنطق على لسان عمر، رضي الله تعالى عنه، واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الأذان على غير لسان النبي صلى الله عليه وسلم، لما فيه من التنويه بعبده، والرفع لذكره، فلأن يكون ذلك على لسان غيره أنوه وأفخر لشأنه، وهو معنى قوله تعالى: * (ورفعنا لك ذكرك) * (الشرح: 2). وروى عبد الرزاق وأبو داود في (المراسيل): من طريق عبيد ابن عمير الليثي، أحد كبار التابعين: (أن عمر، رضي الله تعالى عنه، لما رأى الأذان جاء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بذلك الوحي).
الثانية: هل أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قط بنفسه؟ فروى الترمذي من طريق يدور على عمر بن الرماح يرفعه إلى أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى بأصحابه، وهم على رواحلهم، السماء من فوقهم، والبلة من أسفلهم). هكذا قاله السهيلي. وقال صاحب (التلويح): هذا الحديث لم يخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، كما ذكره السهيلي، وإنما هو عنده من حديث عمر بن الرماح: عن كثير بن زياد عن عمرو بن عثمان بن يعلى بن مرة الثقفي عن أبيه عن جده، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب، تفرد به عمر بن الرماح البلخي، لا يعرف إلا من حديثه، ومن هذه الطريقة أخرجه البيهقي وضعفه، وكذا ابن العربي، وسكت عنه الإشبيلي، وعاب ذلك عليه ابن القطان بأن عمرا وأباه عثمان لا يعرف حالهما. ولما ذكره النووي صححه؛ ومن حديث يعلى أخرجه أحمد في (مسنده)، وأحمد بن منيع وابن أمية والطبراني في (الكبير) و (الأوسط) والعدني، وفي (التاريخ) للأثرم، و (تاريخ الخطيب) وغيرهم، وقال الذهبي: يعلى بن مرة بن وهب الثقفي بايع تحت الشجرة وله دار بالبصرة.
الثالثة: الترجيع في الأذان، وهو أن يرجع ويرفع صوته بالشهادتين بعدما خفض بهما، وبه قال الشافعي ومالك، إلا إنه لا يؤتى بالتكبير في أوله. إلا مرتين. وقال أحمد: إن رجع فلا بأس به، وإن لم يرجع فلا بأس به. وقال أبو إسحاق من أصحاب الشافعي: إن ترك الترجيع يعتد به، وحكى عن بعض أصحابه أنه لا يعتد به كما لو ترك سائر كلماته، كذا في (الحلية). وفي (شرح الوجيز): والأصح أنه إن ترك الترجيع لم يضره، وحجة الشافعي حديث أبي محذورة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله). رواه الجماعة إلا البخاري من حديث عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة، وحجة أصحابنا حديث عبد الله بن زيد من غير ترجيع فيه، وكأن حديث أبي محذورة لأجل التعليم فكرره، فظن أبو محذورة أنه ترجيع، وأنه في أصل الأذان، وروى الطبراني في (معجمه الأوسط) عن أبي محذورة أنه قال: (ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان حرفا حرفا: الله أكبر الله أكبر...) إلى آخره، لم يذكر فيه ترجيعا. وأذان بلال بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا وحضرا، وهو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطباق أهل الإسلام إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومؤذن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى أن توفي من غير ترجيع.
الرابعة: أن التكبير في أول الأذان مربع، على ما في حديث أبي محذورة، رواه مسلم وأبو عوانة والحاكم، وهو المحفوظ عن الشافعي من حديث ابن زيد، رضي الله تعالى عنه، وقال أبو عمر: ذهب مالك وأصحابه إلى أن التكبير في أول الأذان مرتين، قال: وقد روي ذلك من وجوه صحاح في أذان أبي محذورة، وأذان ابن زيد، والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القرظ إلى زمانهم، قلنا: الذي ذهبنا إليه هو أذان الملك النازل من السماء.