لان المغير للطعم، وهو الشيء الملاقي له، وكذلك اللون والريح، وكذلك قوله: (المراد من لفظ ما لم يغيره طعمه ما لم يتغير طعمه) غير موجه، لأنه تفسير للفعل المتعدي بالفعل اللازم، من غير وجه، وكذلك ترديده بقوله: لا يخلو إما أن يراد بالطعم المذكور... إلى آخره، غير موجه لأن الضمير المنصوب في: لم يغيره، يرجع إلى الماء، فيكون المعنى على هذا: لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم الماء، وطعم الماء ذاتي، فكيف يغير ذات الماء؟ وإنما بغيره طعم الشيء الملاقي، والفرق بين الطعمين ظاهر.
النوع الثالث في استنباط الحكم منه استنبط منه: أن مذهب الزهري في الماء الذي يخالطه شيء نجس الاعتبار بتغيره بذلك من غير فرق بين القليل والكثير، وهو مذهب جماعة من العلماء، وشنع أبو عبيد في (كتاب الطهور) على من ذهب إلى هذا بأنه يلزم منه أن: من بال في إبريق ولم يغير للماء وصفا إنه يجوز له التطهر به، هو مستشنع. قال بعضهم: ولهذا نصر قول التفريق بالقلتين. قلت: كيف ينصر هذا بحديث القلتين، وقد قال ابن العربي مداره على علته، أو مضطرب في الرواية، أو موقوف، وحسبك أن الشافعي رواية عن الوليد بن كثير وهو إباضي. واختلفت روايته فقيل: قلتين، وقيل: قلتين أو ثلاثا. وروي أربعون قلة، وروي أربعون فرقا، ووقف على أبي هريرة وعبيد الله بن عمر، وقال اليعمري: حكم ابن منده بصحته على شرط مسلم من جهة الرواة، ولكنه أعرض عن جهة الرواية بكثرة الاختلاف فيها والاضطراب، ولعل مسلما تركه لذلك. قلت: وكذلك لم يخرجه البخاري لاختلاف وقع في إسناده. وقال أبو عمر في (التمهيد): ما ذهب إلى الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت في الأثر، لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل. وقال الدبوسي في كتاب (الأسرار): هو خبر ضعيف، ومنهم من لم يقبله، لأن الصحابة والتابعين لم يعملوا به. وقال ابن بطال: ومذهب الزهري هو قول الحسن والنخعي والأوزاعي، ومذهب أهل المدينة، وهي رواية أبي مصعب عن مالك، وروى عنه ابن القاسم أن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، وإن لم يظهر فيه. وهو قول الشافعي، وروي هذا المعنى عن عبد الله بن عباس وابن مسعود وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه، وسعيد بن جبير، وهو قول الليث وابن صالح بن حي وداود بن علي ومن تبعه، وهو مذهب أهل البصرة. وقد قال بعض أصحابنا: هو الصحيح في النظر، وثابت بالأثر من ذلك صب الماء على بول الأعرابي.
وحديث بئر بضاعة، وحديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما؛ الماء لا ينجسه شيء، ومذهب أصحابنا الماء إما جار أو راكد، قليل أو كثير؛ فالجاري إذا وقعت فيه النجاسة وكانت غير مرئية كالبول والخمر ونحوهما فإنه لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، وإن كانت مرئية كالجيفة ونحوها فإنه لا ينجس. فإن كان يجري عليها جميع الماء لا يجوز التوضؤ به من أسفلها، وان كان يجري أكثرها عليها فكذلك اعتبارا للغالب، وإن كان أقله يجري عليها يجوز التوضؤ به من أسفلها، وإن كان يجري عليها النصف دون النصف فالقياس جواز التوضؤ. وفي الاستحسان لا يجوز احتياطا. والراكد اختلفوا فيه: فقالت الظاهرية: لا ينجس أصلا. وقالت عامة العلماء: إن كان الماء قليلا ينجس، وإن كثيرا لا ينجس، لكنهم اختلفوا في الحد الفاصل بينهما؛ فعندنا بالخلوص، فإن كان يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل، وإلا فهو كثير. واختلف أصحابنا في تفسير الخلوص بعد أن اتفقوا أنه يعتبر الخلوص، بالتحريك، وهو: أن يكون بحال لو حرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر، فهو مما يخلص، وإلا فهو مما لا يخلص. واختلفوا في جهة التحريك، فعن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وعن محمد أنه يعتبر بالوضوء، وروي أنه باليد من غير اغتسال ولا وضوء، وأما اعتبارهم في تفسير الخلوص: فعن أبي حفص الكبير أنه أعتبره بالصبغ، وعن أبي نصر محمد بن سلام أنه اعتبره بالتكدير، وعن أبي سليمان الجوزجاني أنه اعتبره بالمساحة. فقال: إن كان عشرا في عشر فهو مما لا يخلص، وإن كان دونه فهو مما يخلص. وعن ابن المبارك أنه اعتبره بالعشرة أولا، ثم بخمسة عشر، وإليه ذهب أبو مطيع البلخي، فقال: إن كان خمسة عشر في خمسة عشر أرجو أن يجوز، وإن كان عشرين في عشرين لا أجد في قلبي شيئا. وعن محمد أنه قدره بمسجده، وكان ثمانيا في ثمان، وبه أخذ محمد بن سلمة. وقيل: كان مسجده عشرا في عشر. وقيل: كان، داخله ثمانيا في ثمان، وخارجه عشرا في عشر. وعن الكرخي: لا عبرة للتقدير، وإنما المعتبر هو التحري، فلو كان أكثر رأيه أن النجاسة خلصت إلى الموضع