عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ٢٤٩
الأول تخبر عما يجب وما لا يجب فهي أولى.
وأجاب الجمهور عن هذه أن هذه الآثار على نوعين: أحدهما: الماء من الماء، لا غيره فهذا ابن عباس قد روى عنه أنه قال: مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يكون هذا في الاحتلام، وأخرج الترمذي عن علي بن حجر عن شريك عن أبي الحجاب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إنما الماء من الماء في الاحتلام، يعني إذا رأى أنه يجامع ثم ينزل فلا غسل عليه، والنوع الآخر: الذي فيه الأمر، وأخبر فيه القصة، وأنه: لا غل في ذلك حتى يكون الماء، قد جاء خلاف ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه المذكور في الباب، وهذا ناسخ لتلك الآثار. فإن قتل: ليس فيه دليل على النسخ لعدم التعرض إلى شيء من التاريخ. قلت: قد جاء ما يدل على النسخ صريحا وهو ما روى أبو داود في (سننه) حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو يعني بن الحاري عن ابن شهاب، قال: حدثني بعض من أرضي: أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن أبي بن كعب أخبره: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثبات ثم أمرنا بالغسل، ونهى عن ذلك) قال أبو داود: يعني الماء من الماء، وأخرجه الطحاوي أيضا، وأخرج أبو داود أيضا حدثنا محمد بن مهران الرازي، قال: حدثنا مبشر الحلبي عن محمد بن غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد. قال: حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون إن الماء من الماء، كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعد، وأخرجه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، فإن قلت: في الحديث الأول مجهول وهو قوله: حدثني بعض من أرضي. قلت: الظاهر أنه أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج لأن البيهقي روى هذا الحديث. ثم قال: رويناه بإسناد آخر موصول عن أبي حازم عن سهل ابن سعد، والحديث محفوظ عن سهل عن أبي بن كعب كما أخرجه أبو داود. وقال ابن عبد البر في (الأستذكار) إنما رواه ابن شهاب عن أبي حازم، وهو حديث صحيح ثابت بنقل العدول له وأخرج ابن أبي شيبة في (مصنفه) قال: حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن زيد بن أبي حبيب عن معمر بن أبي حية، مولى ابنة صفوان، عن عبيد بن رفاعة بن رافع عن أبيه رفاعة بن رافع، قال: (بينا أنا عند عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، إذ دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة، فقال عمر: علي به، فجاء زيد، فلما رآه عمر، قال: أي عدو نفسه، قد بلغت أنك تفتي الناس برأيك! فقال: يا أمير المؤمنين، بالله ما فعلت، لكني سمعت من أعمامي حديثا فحدثت به، من أبي أيوب، ومن أبي بن كعب، ومن رفاعة بن رافع، فاقبل عمر على رفاعة بن رافع فقال: وقد كنتم تفعلون ذلك؟ إذا أصاب أحدكم من المرأة فأكسل لم يغتسل؟ فقال: قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأتنا فيه تحريم، ولم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نهي، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك؟ قال: لا أدري فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار، فجمعوا له فشاورهم، فأشار الناس أن لا غسل في ذلك إلا ما كان من معاذ وعلي، رضي الله تعالى عنهما، فإنهما قالا: الثالث: إذا لا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فقال عمر، رضي الله تعالى عنه، هذا وأنتم أصحاب بدر، وقد اختلفتم فمن بعدكم أشد اختلافا قال: فقال علي، رضي الله تعالى عنه: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد أعلم بهذا ممن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه، فأرسل إلى حفصة فقالت: لا علم لي بهذا، فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فقال عمر، رضي الله تعالى عنه، لا أسمع برجل فعل ذلك، إلا أوجعته ضربا) ورواه الطحاوي أيضا فيه: لا أعلم أحدا فعله ثم لم يغتسل إلا جعلته نكالا ولم يتقن الكلام أحد في هذا الباب مثل الإمام الحافظ أبي جعفر الطحاوي، فإن أراد أحد أن يتقنه فعليه بكتابه (معاني الآثار) وشرحنا الذي عملناه عليه المسمى (بمباني الأخبار).
فإن قلت: ادعى بعضهم أن أحد أن التنصيص على الشيء باسمه العلم يوجب نفي لحكم عما عداه، لأن الأنصار فهموا عدم وجوب الاغتسال بالأكسال من قوله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) أي: الاغتسال واجب بالمني، فالماء الأول هو المطهر. والثاني هو المني، ومن، للسبيبة، والأنصار كانوا من أهل اللسان وفصحاء العرب وقد فهموا والتخصيص منه حتى استدلوا به على نفي وجوب الاغتسال بالإكسال لعد الماء، ولو لم يكن التنصيص باسم الماء موجبا للنفي لما صح استدلالهم على ذلك. قلت: الذي يقول بهذا أبو بكر الدقاق وبعض الحنابلة، والجواب أن ذلك ليس من دلالة التنصيص على التخصيص، بل إنماهو من اللام المعرفة الموجبة للاستغراق عند عدم المعهود، ونحن نقول:
(٢٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 244 245 246 247 248 249 250 251 252 253 254 ... » »»